فصل: تفسير الآيات رقم (158- 177)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏158- 177‏]‏

‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏158‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ‏(‏159‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏160‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏161‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏162‏)‏ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏163‏)‏ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏164‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ‏(‏165‏)‏ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ‏(‏166‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ‏(‏167‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏168‏)‏ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏169‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏170‏)‏ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏171‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏172‏)‏ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏173‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏174‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ‏(‏175‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏176‏)‏ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏‏}‏

يستهدف هذا الدرس تصحيح عدد من القواعد التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح؛ مع الاستمرار في مواجهة يهود المدينة الذين لا يكفون عن تلبيس الحق بالباطل في هذه القواعد؛ وكتمان الحق الذي يعلمونه في شأنها؛ وإيقاع البلبلة والاضطراب فيها‏.‏‏.‏ ولكن السياق يتخذ في هذا الدرس أسلوب التعميم؛ وعرض القواعد العامة، التي تشمل اليهود وغيرهم ممن يرصدون للدعوة‏.‏ وكذلك يحذر المسلمين من المزالق التي تترصدهم في طريقهم بصفة عامة‏.‏

ومن ثم نجد بياناً في موضوع الطواف بالصفا والمروة، بسبب ما كان يلابس هذا الموضوع من تقاليد الجاهلية‏.‏ وهو بيان يتصل كذلك بمسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام في الصلاة، وإقرار شعائر الحج إلى هذا البيت‏.‏

لذلك يليه في السياق بيان في شأن أهل الكتاب الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى؛ وحملة عنيفة عليهم؛ مع فتح باب التوبة لمن يريد أن يتوب‏.‏ فأما الذين يصرون على الكفر فيعدهم اللعنة الجامعة، والعذاب الشديد الدائم‏.‏

ثم بيان لوحدانية الله، وتوجيه إلى الآيات الكونية الشاهدة بهذه الحقيقة‏.‏ وتنديد بمن يتخذون من دون الله أنداداً‏.‏ وعرض مشهد من مشاهد القيامة للتابعين منهم والمتبوعين‏.‏ يتبرأ بعضهم من بعض وهم يرون العذاب‏.‏

وبمناسبة ما كان يجادل فيه اليهود من الحلال والحرام في المطاعم والمشارب، مما نزل به القرآن وبيانه عندهم فيما يكتمونه من التوراة‏.‏‏.‏ تجيء دعوة إلى الناس كافة للاستمتاع بالطيبات التي أحلها الله؛ وتحذير من الشيطان الذي يأمرهم بالسوء والفحشاء‏.‏ تليها دعوة خاصة للذين آمنوا للاستمتاع بما أحل الله لهم والامتناع عما حرم عليهم، وبيان هذه المحرمات التي يجادل فيها اليهود ويماحلون وهم يعلمون‏.‏

ومن ثم حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً‏.‏ وتهديد رعيب بما ينتظرهم في الآخرة من إهمال وغضب واحتقار‏.‏

وفي نهاية الدرس يرد بيان عن حقيقة البر يتضمن قواعد الإيمان والعمل الصالح، يصحح به التصور الإيماني؛ فليس هو شكليات ظاهرية، وتقليباً للوجوه قبل المشرق والمغرب، ولكنه شعور وعمل وارتباط بالله في الشعور والعمل‏.‏‏.‏ وتبدو العلاقة بين هذا البيان والجدل الذي ثار حول القبلة واضحة‏.‏

وهكذا نجد السياق ما يزال في المعركة‏.‏‏.‏ المعركة في داخل النفوس لتصحيح التصورات والموازين‏.‏ والمعركة مع الكيد والدس والبلبلة التي يقوم بها أعداء المسلمين‏.‏‏.‏

‏{‏إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما، ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم‏}‏‏.‏‏.‏

هناك عدة روايات عن سبب نزول هذه الآية، أقربها إلى المنطق النفسي المستفاد من طبيعة التصور الذي أنشأه الإسلام في نفوس المجموعة السابقة إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار‏.‏

‏.‏ الرواية التي تقول‏:‏ إن بعض المسلمين تحرجوا من الطواف بالصفا والمروة في الحج والعمرة، بسبب أنهم كانوا يسعون بين هذين الجبلين في الجاهلية، وأنه كان فوقهما صنمان هما أساف ونائلة‏.‏ فكره المسلمون أن يطوفوا كما كانوا يطوفون في الجاهلية‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عاصم بن سليمان‏:‏ قال سألت أنساً عن الصفا والمروة قال‏:‏ كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية‏.‏ فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الصفا والمروة من شعائر الله‏}‏‏.‏‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ كان أساف على الصفا، وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية‏.‏

ولم يرد تحديد لتاريخ نزول هذه الآية‏.‏ والأرجح أنها نزلت متأخرة عن الآيات الخاصة بتحويل القبلة‏.‏ ومع أن مكة قد أصبحت دار حرب بالنسبة للمسلمين، فإنه لا يبعد أن بعض المسلمين كانوا يتمكنون أفراداً من الحج ومن العمرة‏.‏ وهؤلاء هم الذين تحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة‏.‏‏.‏ وكان هذا التحرج ثمرة التعليم الطويل، ووضوح التصور الإيماني في نفوسهم، هذا الوضوح الذي يجعلهم يتحرزون ويتوجسون من كل أمر كانوا يزاولونه في الجاهلية‏.‏ إذ أصبحت نفوسهم من الحساسية في هذه الناحية بحيث تفزع من كل ما كان في الجاهلية، وتتوجس أن يكون منهياً عنه في الإسلام‏.‏ الأمر الذي ظهر بوضوح في مناسبات كثيرة‏.‏‏.‏

كانت الدعوة الجديدة قد هزت أرواحهم هزاً وتغلغلت فيها إلى الأعماق، فأحدثت فيها انقلاباً نفسياً وشعورياً كاملاً، حتى لينظرون بجفوة وتحرز إلى ماضيهم في الجاهلية؛ ويحسون أن هذا شطر من حياتهم قد انفصلوا عنه انفصالاً كاملاً فلم يعد منهم، ولم يعودوا منه؛ وعاد دنساً ورجساً يتحرزون من الإلمام به‏!‏

وإن المتابع لسيرة هذه الفترة الأخيرة في حياة القوم ليحس بقوة أثر هذه العقيدة العجيب في تلك النفوس‏.‏ يحس التغير الكامل في تصورهم للحياة‏.‏ حتى لكأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- قد أمسك بهذه النفوس فهزها هزة نفضت عنها كل رواسبها، وأعادت تأليف ذراتها على نسق جديد؛ كما تصنع الهزة الكهربية في تأليف ذرات الأجسام على نسق آخر غير الذي كان‏!‏

وهذا هو الإسلام‏.‏‏.‏ هذا هو‏:‏ انسلاخاً كاملاً عن كل ما في الجاهلية، وتحرجاً بالغاً من كل أمر من أمور الجاهلية، وحذراً دائماً من كل شعور وكل حركة كانت النفس تأتيها في الجاهلية‏.‏ حتى يخلص القلب للتصور الجديد بكل ما يقتضيه‏.‏‏.‏ فلما أن تم هذا في نفوس الجماعة المسلمة أخذ الإسلام يقرر ما يريد الإبقاء عليه من الشعائر الأولى، مما لا يرى فيه بأساً‏.‏ ولكن يربطه بعروة الإسلام بعد أن نزعه وقطعه عن أصله الجاهلي‏.‏ فإذا أتاه المسلم فلا يأتيه لأنه كان يفعله في الجاهلية؛ ولكن لأنه شعيرة جديدة من شعائر الإسلام، تستمد أصلها من الإسلام‏.‏

وهنا نجد مثالا من هذا المنهج التربوي العميق‏.‏ إذ يبدأ القرآن بتقرير أن الصفا والمروة من شعائر الله‏:‏ ‏{‏إن الصفا والمروة من شعائر الله‏}‏‏.‏‏.‏

فإذا أطوف بهما مطوف، فإنما يؤدي شعيرة من شعائر الله؛ وإنما يقصد بالطواف بينهما إلى الله‏.‏ ولقد انقطع ما بين هذا الطواف الجديد وطواف الجاهلية الموروث؛ وتعلق الأمر بالله- سبحانه- لا بأساف ونائلة وغيرهما من أصنام الجاهلية‏!‏

ومن ثم فلا حرج ولا تأثم‏.‏ فالأمر غير الأمر، والاتجاه غير الاتجاه‏:‏

‏{‏فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما‏}‏‏.‏‏.‏

وقد أقر الإسلام معظم شعائر الحج التي كان العرب يؤدونها، ونفى كل ما يمت إلى الأوثان وإلى أوهام الجاهلية، وربط الشعائر التي أقرها بالتصور الإسلامي الجديد، بوصفها شعائر إبراهيم التي علمه ربه إياها ‏(‏وسيأتي تفصيل هذا عند الكلام على فريضة الحج في موضعه من سياق السورة‏)‏‏.‏‏.‏ فأما العمرة فكالحج في شعائرها فيما عدا الوقوف بعرفة دون توقيت بمواقيت الحج‏.‏ وفي كلا الحج والعمرة جعل الطواف بين الصفا المروة من شعائرهما‏.‏

ثم يختم الآية بتحسين التطوع بالخير إطلاقاً‏:‏

‏{‏ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم‏}‏‏.‏‏.‏

فيلمح إلى أن هذا الطواف من الخير، وبذلك ينفي من النفوس كل حرج، ويطيب القلوب بهذه الشعائر، ويطمئنها على أن الله يعدها خيراً، ويجازي عليها بالخير‏.‏ وهو يعلم ما تنطوي عليه القلوب من نية وشعور‏.‏

ولا بد أن نقف لحظة أمام ذلك التعبير الموحي‏:‏ ‏{‏فإن الله شاكر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏ إن المعنى المقصود أن الله يرضى عن ذلك الخير ويثيب عليه‏.‏ ولكن كلمة ‏{‏شاكر‏}‏ تلقي ظلالاً ندية وراء هذا المعنى المجرد‏.‏ تلقي ظلال الرضى الكامل، حتى لكأنه الشكر من الرب للعبد‏.‏ ومن ثم توحي بالأدب الواجب من العبد مع الرب‏.‏ فإذا كان الرب يشكر لعبده الخير، فماذا يصنع العبد ليوفي الرب حقه من الشكر والحمد‏؟‏‏!‏ تلك ظلال التعبير القرآني التي تلمس الحس بكل ما فيها من الندى والرفق والجمال‏.‏

ومن بيان مشروعية الطواف بالصفا والمروة ينتقل السياق إلى الحملة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى، وهم اليهود الذين سبق الحديث عنهم طويلا في سياق السورة‏.‏ مما يوحي بأن دسائسهم لم تنقطع حول مسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام وفرض الحج إليه أيضاً‏:‏

‏{‏إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون‏.‏ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم، وأنا التواب الرحيم‏.‏ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار، أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين‏.‏ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد كان أهل الكتاب يعرفون مما بين أيديهم من الكتاب مدى ما في رسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- من حق، ومدى ما في الأوامر التي يبلغها من صدق، ومع هذا يكتمون هذا الذي بينه الله لهم في الكتاب‏.‏

فهم وأمثالهم في أي زمان، ممن يكتمون الحق الذي أنزله الله، لسبب من أسباب الكتمان الكثيرة، ممن يراهم الناس في شتى الأزمنة وشتى الأمكنة، يسكتون عن الحق وهم يعرفونه، ويكتمون الأقوال التي تقرره وهم على يقين منها، ويجتنبون آيات في كتاب الله لا يبرزونها بل يسكتون عنها ويخفونها لينحوا الحقيقة التي تحملها هذه الآيات ويخفوها بعيداً عن سمع الناس وحسهم، لغرض من أغراض هذه الدنيا‏.‏‏.‏ الأمر الذي نشهده في مواقف كثيرة، وبصدد حقائق من حقائق هذا الدين كثيرة‏.‏‏.‏ ‏{‏أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون‏}‏‏.‏‏.‏

كأنما تحولوا إلى ملعنة، ينصب عليها اللعن من كل مصدر، ويتوجه إليها- بعد الله- من كل لاعن

واللعن‏:‏ الطرد في غضب وزجر، وأولئك الخلق يلعنهم الله فيطردهم من رحمته، ويطاردهم اللاعنون من كل صوب‏.‏ فهم هكذا مطاردون من الله ومن عباده في كل مكان‏.‏‏.‏

‏{‏إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا‏.‏ فأولئك أتوب عليهم، وأنا التواب الرحيم‏}‏‏.‏‏.‏

هؤلاء يفتح القرآن لهم هذه النافذة المضيئة- نافذة التوبة- يفتحها فتنسم نسمة الأمل في الصدور، وتقود القلوب إلى مصدر النور، فلا تيئس من رحمة الله، ولا تقنط من عفوه‏.‏ فمن شاء فليرجع إلى الحمى الآمن، صادق النية‏.‏ وآية صدق التوبة الإصلاح في العمل، والتبيين في القول، وإعلان الحق والاعتراف به والعمل بمقتضاه‏.‏ ثم ليثق برحمة الله وقبوله للتوبة، وهو يقول‏:‏ ‏{‏وأنا التواب الرحيم‏}‏ وهو أصدق القائلين‏.‏

فأما الذين يصرون ولا يتوبون حتى تفلت الفرصة وتنتهي المهلة، فأولئك ملاقون ما أوعد الله من قبل به، بزيادة وتفصيل وتوكيد‏:‏

‏{‏إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار‏.‏ أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين‏.‏ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك أنهم أغلقوا على أنفسهم ذلك الباب المفتوح، وتركوا الفرصة تفلت، والمهلة تنقضي، وأصروا على الكتمان والكفر والضلال‏:‏ ‏{‏أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين‏}‏‏.‏‏.‏ فهي لعنة مطبقة لا ملجأ منها ولا صدر حنون‏!‏

ولم يذكر السياق لهم عذاباً آخر غير هذه اللعنة المطبقة؛ بل عدها عذاباً لا يخفف عنهم، ولا يؤجل موعده ولا يمهلون فيه، وإنه لعذاب دونه كل عذاب‏.‏ عذاب المطاردة والنبذ والجفوة‏.‏ فلا يتلقاهم صدر فيه حنان، ولا عين فيها قبول، ولا لسان فيه تحية‏.‏ إنهم ملعونون مطرودون منبوذون من العباد ومن رب العباد في الأرض وفي الملأ الأعلى على السواء‏.‏‏.‏ وهذا هو العذاب الأليم المهين‏.‏‏.‏

بعد هذا يمضي السياق في إقامة التصور الإيماني على قاعدته الكبيرة‏.‏ قاعدة التوحيد‏.‏ ويعرض من مشاهد الكون ما يشهد بهذه الحقيقة شهادة لا تقبل الجدل‏.‏

ثم يندد بمن يتخذون من دون الله انداداً؛ ويصور موقفهم المتخاذل يوم يرون العذاب، فيتبرأ بعضهم من بعض؛ فلا ينفعهم هذا التبرؤ، ولا تفيدهم حسراتهم ولا تخرجهم من النار‏.‏

‏{‏وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم‏.‏ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون‏.‏ ومن الناس من يتخذ من دون الله انداداً يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حباً لله‏.‏ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً، وأن الله شديد العذاب‏.‏ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب‏.‏ وقال الذين اتبعوا‏:‏ لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا‏!‏ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وما هم بخارجين من النار‏}‏‏.‏‏.‏

إن وحدة الألوهية هي القاعدة الكبيرة التي يقوم عليها التصور الإيماني‏.‏ فلم يكن هناك جدل حول الاعتقاد بوجود إله- تختلف التصورات حول ذاته وحول صفاته وحول علاقاته بالخلق ولكنها لا تنفي وجوده- ولم يقع أن نسيت الفطرة هذه الحقيقة، حقيقة وجود إله، إلا في هذه الأيام الأخيرة حين نبتت نابتة منقطعة عن أصل الحياة، منقطعة عن أصل الفطرة، تنكر وجود الله‏.‏ وهي نابتة شاذة لا جذور لها في أصل هذا الوجود؛ ومن ثم فمصيرها حتماً إلى الفناء والاندثار من هذا الوجود‏.‏ هذا الوجود الذي لا يطيق تكوينه، ولا تطيق فطرته بقاء هذا الصنف من الخلائق المقطوعة الجذور‏!‏

لذلك اتجه السياق القرآني دائما إلى الحديث عن وحدة الألوهية، بوصفها التصحيح الضروري للتصور، والقاعدة الأساسية لإقامة هذا التصور‏.‏‏.‏ ثم لإقامة سائر القواعد الأخلاقية والنظم الاجتماعية، المنبثقة من هذا التصور‏.‏‏.‏ تصور وحدة الألوهية في هذا الوجود‏:‏

‏{‏وإلهكم إله واحد‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏‏.‏‏.‏

ومن وحدانية الألوهية التي يؤكدها هذا التأكيد، بشتى أساليب التوكيد، يتوحد المعبود الذي يتجه إليه الخلق بالعبودية والطاعة؛ وتتوحد الجهة التي يتلقى منها الخلق قواعد الأخلاق والسلوك؛ ويتوحد المصدر الذي يتلقى منه الخلق أصول الشرائع والقوانين؛ ويتوحد المنهج الذي يصرف حياة الخلق في كل طريق‏.‏

وهنا والسياق يستهدف إعداد الأمة المسلمة لدورها العظيم في الأرض، يعيد ذكر هذه الحقيقة التي تكرر ذكرها مرات ومرات في القرآن المكي، والتي ظل القرآن يعمق جذورها ويمد في آفاقها حتى تشمل كل جوانب الحس والعقل، وكل جوانب الحياة والوجود‏.‏‏.‏‏.‏ يعيد ذكر هذه الحقيقة ليقيم على أساسها سائر التشريعات والتكاليف‏.‏‏.‏ ثم يذكر من صفات الله هنا‏:‏ ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏‏.‏

‏.‏ فمن رحمته السابغة العميقة الدائمة تنبثق كل التشريعات والتكاليف‏.‏

وهذا الكون كله شاهد بالوحدانية وبالرحمة في كل مجاليه‏:‏

‏{‏إن في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل النهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض‏.‏‏.‏ لآيات لقوم يعقلون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الطريقة في تنبيه الحواس والمشاعر جديرة بأن تفتح العين والقلب على عجائب هذا الكون‏.‏ العجائب التي تفقدنا الألفة جدتها وغرابتها وإيحاءاتها للقلب والحس، وهي دعوة للإنسان أن يرتاد هذا الكون كالذي يراه أول مرة مفتوح العين، متوفز الحس، حي القلب‏.‏ وكم في هذه المشاهد المكرورة من عجيب‏.‏ وكم فيها من غريب وكم اختلجت العيون والقلوب وهي تطلع عليها أول مرة؛ ثم الفتها ففقدت هزة المفاجأة، ودهشة المباغتة، وروعة النظرة الأولى إلى هذا المهرجان العجيب‏.‏

تلك السماوات والأرض‏.‏‏.‏ هذه الأبعاد الهائلة والأجرام الضخمة والآفاق المسحورة، والعوالم المجهولة‏.‏‏.‏ هذا التناسق في مواقعها وجريانها في ذلك الفضاء الهائل الذي يدير الرؤوس‏.‏‏.‏ هذه الأسرار التي توصوص للنفس وتلتف في رداء المجهول‏.‏‏.‏ هذه السماوات والأرض حتى دون أن يعرف الإنسان شيئاً عن حقيقة أبعادها وأحجامها وأسرارها التي يكشف الله للبشر عن بعضها حينما تنمو مداركهم وتسعفهم أبحاث العلوم‏.‏‏.‏

واختلاف الليل والنهار‏.‏‏.‏ تعاقب النور والظلام‏.‏‏.‏ توالي الإشراق والعتمة‏.‏ ذلك الفجر وذلك الغروب‏.‏‏.‏ كم اهتزت لها مشاعر، وكم وجفت لها قلوب، وكم كانت أعجوبة الأعاجيب‏.‏‏.‏ ثم فقد الإنسان وهلتها وروعتها مع التكرار‏.‏ إلا القلب المؤمن الذي تتجدد في حسه هذه المشاهد؛ ويظل أبداً يذكر يد الله فيها فيتلقاها في كل مرة بروعة الخلق الجديد‏.‏

والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس‏.‏‏.‏ وأشهد ما أحسست ما في هذه اللفتة من عمق قدر ما أحسست ونقطة صغيرة في خضم المحيط تحملنا وتجري بنا، والموج المتلاطم والزرقة المطلقة من حولنا‏.‏ والفلك سابحة متناثرة هنا وهناك‏.‏ ولا شيء إلا قدرة الله، وإلا رعاية الله، وإلا قانون الكون الذي جعله الله، يحمل تلك النقطة الصغيرة على ثبج الأمواج وخضمها الرعيب‏!‏

وما أنزل الله من السماء من ماء، فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض‏.‏‏.‏ وكلها مشاهد لو أعاد الإنسان تأملها- كما يوحي القرآن للقلب المؤمن- بعين مفتوحة وقلب واع، لارتجف كيانه من عظمة القدرة ورحمتها‏.‏‏.‏ تلك الحياة التي تنبعث من الأرض حينما يجودها الماء‏.‏‏.‏ هذه الحياة المجهولة الكنه، اللطيفة الجوهر، التي تدب في لطف، ثم تتبدى جاهرة معلنة قوية‏.‏‏.‏ هذه الحياة من أين جاءت‏؟‏ كانت كامنة في الحبة والنواة‏!‏ ولكن من أين جاءت إلى الحبة والنواة‏؟‏ أصلها‏؟‏ مصدرها الأول‏؟‏ إنه لا يجدي الهرب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على الفطرة‏.‏

‏.‏ لقد حاول الملحدون تجاهل هذا السؤال الذي لا جواب عليه إلا وجود خالق قادر على إعطاء الحياة للموات‏.‏ وحاولوا طويلاً أن يوهموا الناس أنهم في طريقهم إلى إنشاء الحياة- بلا حاجة إلى إله‏!‏- ثم أخيراً إذا هم في أرض الإلحاد الجاحد الكافر ينتهون إلى نفض أيديهم والإقرار بما يكرهون‏:‏ استحالة خلق الحياة‏!‏ وأعلم علماء روسيا الكافرة في موضوع الحياة هو الذي يقول هذا الآن‏!‏ ومن قبل راغ دارون صاحب نظرية النشوء والارتقاء من مواجهة هذا السؤال‏!‏

ثم تلك الرياح المتحولة من وجهة إلى وجهة، وذلك السحاب المحمول على هواء، المسخر بين السماء والأرض، الخاضع للناموس الذي أودعه الخالق هذا الوجود‏.‏‏.‏ إنه لا يكفي أن تقول نظرية ما تقوله عن أسباب هبوب الريح، وعن طريقة تكون السحاب‏.‏‏.‏ إن السر الأعمق هو سر هذه الأسباب‏.‏‏.‏ سر خلقة الكون بهذه الطبيعة وبهذه النسب وبهذه الأوضاع، التي تسمح بنشأة الحياة ونموها وتوفير الأسباب الملائمة لها من رياح وسحاب ومطر وتربة‏.‏‏.‏ سر هذه الموافقات التي يعد المعروف منها بالآلاف، والتي لو اختلت واحدة منها ما نشأت الحياة أو ما سارت هذه السيرة‏.‏‏.‏ سر التدبير الدقيق الذي يشي بالقصد والاختيار، كما يشي بوحدة التصميم ورحمة التدبير‏.‏‏.‏

إن في ذلك ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏‏.‏‏.‏

نعم لو ألقى الإنسان عن عقله بلادة الألفة والغفلة، فاستقبل مشاهد الكون بحس متجدد، ونظرة مستطلعة، وقلب نوّره الإيمان‏.‏ ولو سار في هذا الكون كالرائد الذي يهبط إليه أول مرة‏.‏ تلفت عينه كل ومضة، وتلفت سمعه كل نأمة، وتلفت حسه كل حركة، وتهز كيانه تلك الأعاجيب التي ما تني تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر‏.‏‏.‏

إن هذا هو ما يصنعه الإيمان‏.‏ هذا التفتح‏.‏ هذه الحساسية‏.‏ هذا التقدير للجمال والتناسق والكمال‏.‏‏.‏ إن الإيمان رؤية جديدة للكون، وإدراك جديد للجمال، وحياة على الأرض في مهرجان من صنع الله، آناء الليل وأطراف النهار‏.‏‏.‏

ومع هذا فإن هناك من لا ينظر ولا يتعقل، فيحيد عن التوحيد الذي يوحي به تصميم الوجود، والنظر في وحدة الناموس الكوني العجيب‏:‏

‏{‏ومن الناس من يتخذ من دون الله انداداً يحبونهم كحب الله‏}‏‏.‏‏.‏

من الناس من يتخذ من دون الله انداداً‏.‏‏.‏ كانوا على عهد المخاطبين بهذا القرآن أحجاراً وأشجاراً، أو نجوماً وكواكب، أو ملائكة وشياطين‏.‏‏.‏ وهم في كل عهد من عهود الجاهلية أشياء أو أشخاص أو شارات أو اعتبارات‏.‏‏.‏ وكلها شرك خفي أو ظاهر، إذا ذكرت إلى جانب اسم الله، وإذا أشركها المرء في قلبه مع حب الله، فكيف إذا نزع حب الله من قلبه وأفرد هذه الأنداد بالحب الذي لا يكون إلا لله‏؟‏

إن المؤمنين لا يحبون شيئاً حبهم لله‏.‏

لا أنفسهم ولا سواهم‏.‏ لا أشخاصاً ولا اعتبارات ولا شارات ولا قيماً من قيم هذه الأرض التي يجري وراءها الناس‏:‏

‏{‏والذين آمنوا أشد حباً لله‏}‏‏.‏‏.‏

أشد حباً لله، حباً مطلقاً من كل موازنة، ومن كل قيد‏.‏ أشد حباً لله من كل حب يتجهون به إلى سواه‏.‏

والتعبير هنا بالحب تعبير جميل، فوق أنه تعبير صادق‏.‏ فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب‏.‏ صلة الوشيجة القلبية، والتجاذب الروحي‏.‏ صلة المودة والقربى‏.‏ صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود‏.‏

‏{‏ولو يرى الذين ظلموا- إذ يرون العذاب- أن القوة لله جميعاً، وأن الله شديد العذاب‏.‏ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب‏.‏ وقال الذين اتبعوا‏:‏ لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا‏!‏ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وما هم بخارجين من النار‏}‏‏.‏‏.‏

أولئك الذين اتخذوا من دون الله انداداً‏.‏ فظلموا الحق، وظلموا أنفسهم‏.‏‏.‏ لو مدوا بأبصارهم إلى يوم يقفون بين يدي الله الواحد‏!‏ لو تطلعوا ببصائرهم إلى يوم يرون العذاب الذي ينتظر الظالمين‏!‏ لو يرون لرأوا ‏{‏أن القوة لله جميعاً‏}‏ فلا شركاء ولا أنداد‏.‏‏.‏ ‏{‏وأن الله شديد العذاب‏}‏‏.‏

لو يرون إذ تبرأ المتبوعون من التابعين‏.‏ ورأوا العذاب‏.‏ فتقطعت بينهم الأواصر والعلاقات والأسباب، وانشغل كل بنفسه تابعاً كان أم متبوعاً‏.‏ وسقطت الرياسات والقيادات التي كان المخدوعون يتبعونها، وعجزت عن وقاية أنفسها فضلاً عن وقاية تابعيها‏.‏ وظهرت حقيقة الألوهية الواحدة والقدرة الواحدة، وكذب القيادات الضالة وضعفها وعجزها أمام الله وأمام العذاب‏.‏

‏{‏وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا‏}‏‏.‏‏.‏

وتبدى الحنق والغيظ من التابعين المخدوعين في القيادات الضالة‏.‏ وتمنوا لو يردون لهم الجميل‏!‏ لو يعودون إلى الأرض فيتبرأوا من تبعيتهم لتلك القيادات العاجزة الضعيفة في حقيقتها، التي خدعتهم ثم تبرأت منهم أمام العذاب‏!‏

إنه مشهد مؤثر‏:‏ مشهد التبرؤ والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين‏.‏ بين المحبين والمحبوبين‏!‏ وهنا يجيء التعقيب الممض المؤلم‏:‏

‏{‏كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار‏}‏‏.‏‏.‏

بعد هذا يمضي السياق يدعو الناس إلى التمتع بطيبات الحياة، والبعد عن خبائثها، محذراً من اتباع الشيطان، الذي يأمرهم بالخبائث، والادعاء على الله في التحليل والتحريم بغير إذن منه ولا تشريع؛ ويحذرهم من التقليد في شأن العقيدة بغير هدى من الله، ويندد بالذين يدعون من دون الله ما لا يعقل ولا يسمع‏.‏‏.‏ وبهذا يلتقي موضوع هذه الفقرة بموضوع الفقرة السابقة في السياق‏:‏

‏{‏يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين‏.‏ إنما يأمركم بالسوء والفحشاء، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏.‏

وإذا قيل لهم‏:‏ اتبعوا ما أنزل الله قالوا‏:‏ بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا‏.‏ أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون‏؟‏ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون‏}‏‏.‏‏.‏

لما بين الله- سبحانه- أنه الإله الواحد، وأنه الخالق الواحد- في الفقرات السابقة- وأن الذين يتخذون من دون الله أنداداً سينالهم ما ينالهم‏.‏‏.‏ شرع يبين هنا أنه الرازق لعباده، وأنه هو الذي يشرع لهم الحلال والحرام وهذا فرع عن وحدانية الألوهية كما أسلفنا‏.‏ فالجهة التي تخلق وترزق هي التي تشرع فتحرم وتحلل‏.‏ وهكذا يرتبط التشريع بالعقيدة بلا فكاك‏.‏

وهنا يبيح الله للناس جميعاً أن يأكلوا مما رزقهم في الأرض حلالاً طيباً- إلا ما شرع لهم حرمته وهو المبين فيما بعد- وأن يتلقوا منه هو الأمر في الحل والحرمة، وألا يتبعوا الشيطان في شيء من هذا، لأنه عدوهم؛ ومن ثم فهو لا يأمرهم بخير، إنما يأمرهم بالسوء من التصور والفعل؛ ويأمرهم بأن يحللوا ويحرموا من عند أنفسهم، دون أمر من الله، مع الزعم بأن هذا الذي يقولونه هو شريعة الله‏.‏‏.‏ كما كان اليهود مثلاً يصنعون، وكما كان مشركو قريش يدعون‏:‏

‏{‏يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين‏.‏ إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا الأمر بالإباحة والحل لما في الأرض- إلا المحظور القليل الذي ينص عليه القرآن نصاً- يمثل طلاقة هذه العقيدة، وتجاوبها مع فطرة الكون وفطرة الناس‏.‏ فالله خلق ما في الأرض للإنسان، ومن ثم جعله له حلالاً، لا يقيده إلا أمر خاص بالحظر، وإلا تجاوز دائرة الاعتدال والقصد‏.‏ ولكن الأمر في عمومه أمر طلاقة واستمتاع بطيبات الحياة، واستجابة للفطرة بلا كزازة ولا حرج ولا تضييق‏.‏‏.‏ كل أولئك بشرط واحد، هو أن يتلقى الناس ما يحل لهم وما يحرم عليهم من الجهة التي ترزقهم هذا الرزق‏.‏ لا من إيحاء الشيطان الذي لا يوحي بخير لأنه عدو للناس بين العداوة‏.‏ لا يأمرهم إلا بالسوء وبالفحشاء، وإلا بالتجديف على الله، والإفتراء عليه، دون تثبت ولا يقين‏!‏

‏{‏وإذا قيل لهم‏:‏ اتبعوا ما أنزل الله قالوا‏:‏ بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا‏}‏‏.‏‏.‏

وسواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام، وإلى تلقي شرائعهم وشعائرهم منه، وهجر ما ألفوه في الجاهلية مما لا يقره الإسلام‏.‏ أو كانوا هم اليهود الذين كانوا يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم ويرفضون الاستجابة للدين الجديد جملة وتفصيلاً‏.‏‏.‏ سواء كانوا هؤلاء أم هؤلاء فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله؛ وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك‏:‏

‏{‏أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون‏}‏‏.‏

أولو كان الأمر كذلك، يصرون على اتباع ما وجدوا عليه آباءهم‏؟‏ فأي جمود هذا وأي تقليد‏؟‏‏!‏

ومن ثم يرسم لهم صورة زرية تليق بهذا التقليد وهذا الجمود، صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا يعني‏!‏ بل هم أضل من هذه البهيمة، فالبهمية ترى وتسمع وتصيح، وهم صم بكم عمي‏:‏

‏{‏ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء‏.‏ صم بكم عمي فهم لا يعقلون‏}‏ ‏!‏

صم بكم عمي‏.‏ ولو كانت لهم آذان وألسنة وعيون‏.‏ ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون‏.‏ فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خلقت لها، وكأنهم إذن لم توهب لهم آذان وألسنة وعيون‏.‏

وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره، ويغلق منافذ المعرفة والهداية، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة‏.‏‏.‏

وهنا يتجه بالحديث- خاصة- إلى الذين آمنوا‏.‏ يبيح لهم الأكل من طيبات ما رزقهم‏.‏ ويوجههم إلى شكر المنعم على نعمه‏.‏ ويبين لهم ما حرم عليهم، وهو غير الطيبات التي أباحها لهم‏.‏ ويندد بالذين يجادلونهم في هذه الطيبات والمحرمات من اليهود‏.‏ وهي عندهم في كتابهم‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم، واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون‏.‏ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله‏.‏ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه‏.‏ إن الله غفور رحيم‏.‏ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناَ قليلاً، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم‏.‏ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار‏!‏ ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق، وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد‏}‏‏.‏‏.‏

إن الله ينادي الذين آمنوا بالصفة التي تربطهم به سبحانه، وتوحي إليهم أن يتلقوا منه الشرائع؛ وأن يأخذوا عنه الحلال والحرام‏.‏ ويذكرهم بما رزقهم فهو وحده الرازق، ويبيح لهم الطيبات مما رزقهم؛ فيشعرهم أنه لم يمنع عنهم طيباً من الطيبات، وأنه إذا حرم عليهم شيئاً فلأنه غير طيب، لا لأنه يريد أن يحرمهم ويضيق عليهم- وهو الذي أفاض عليهم الرزق ابتداء- ويوجههم للشكر إن كانوا يريدون أن يعبدوه وحده بلا شريك‏.‏ فيوحي إليهم بأن الشكر عبادة وطاعة يرضاها الله من العباد‏.‏‏.‏ كل أولئك في آية واحدة قليلة الكلمات‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون‏}‏‏.‏

ثم يبين لهم المحرمات من المآكل نصاً وتحديداً باستعمال أداة القصر ‏{‏إنما‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله‏}‏‏.‏‏.‏

والميتة تأباها النفس السليمة وكذلك الدم‏.‏ فضلاً على ما أثبته الطب- بعد فترة طويلة من تحريم القرآن والتوراة قبله بإذن الله- من تجمع الميكروبات والمواد الضارة في الميتة وفي الدم، ولا ندري إن كان الطب الحديث قد استقصى ما فيهما من الأذى أم إن هناك أسباباً أخرى للتحريم لم يكشف عنها بعد للناس‏.‏

فأما الخنزير فيجادل فيه الآن قوم‏.‏‏.‏ والخنزير بذاته منفر للطبع النظيف القويم‏.‏‏.‏ ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة ‏(‏الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة‏)‏‏.‏ ويقول الآن قوم‏:‏ إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت، فلم تعد هذه الديدان وبويضاتها مصدر خطر لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توافرها وسائل الطهو الحديثة‏.‏‏.‏ وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة‏.‏ فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها‏؟‏ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها، وندع كلمة الفصل لها، ونحرم ما حرمت، ونحلل ما حللت، وهي من لدن حكيم خبير‏!‏

أما ما أهل به لغير الله‏.‏ أي ما توجه به صاحبه لغير الله‏.‏ فهو محرم، لا لعلة فيه، ولكن للتوجه به لغير الله‏.‏ محرم لعلة روحية تنافي صحة التصور، وسلامة القلب، وطهارة الروح، وخلوص الضمير، ووحدة المتجه‏.‏‏.‏ فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية على هذا المعنى المشترك للنجاسة‏.‏ وهو ألصق بالعقيدة من سائر المحرمات قبله‏.‏ وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك‏.‏‏.‏

ومن هنا تتجلى علاقة التحليل والتحريم في هذه الآيات، بالحديث عن وحدانية الله ورحمته كذلك في الآيات السابقة‏.‏ فالصلة قوية ومباشرة بين الاعتقاد في إله واحد، وبين التلقي عن أمر الله في التحليل والتحريم‏.‏‏.‏ وفي سائر أمور التشريع‏.‏‏.‏

ومع هذا فالإسلام يحسب حساب الضرورات، فيبيح فيها المحظورات، ويحل فيها المحرمات بقدر ما تنتفي هذه الضرورات، بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها‏:‏

‏{‏فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه‏.‏ إن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

وهو مبدأ عام ينصب هنا على هذه المحرمات‏.‏ ولكنه بإطلاقه يصح أن يتناول سواها في سائر المقامات‏.‏ فأيما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة، فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود التي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة‏.‏ على أن هناك خلافاً فقهياً حول مواضع الضرورة‏.‏‏.‏ هل فيها قياس‏؟‏ أم هي الضرورات التي نص عليها الله بأعيانها‏.‏

‏.‏ وحول مقدار ما تدفع به الضرورة‏؟‏ هل هو أقل قدر من المحظور أم أكلة أو شربة كاملة‏.‏‏.‏ ولا ندخل نحن في هذا الخلاف الفقهي‏.‏ وحسبنا هذا البيان في ظلال القرآن‏.‏

ولقد جادل اليهود جدالاً كثيراً حول ما أحله القرآن وما حرمه فقد كانت هناك محرمات على اليهود خاصة وردت في سورة أخرى‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم‏}‏‏.‏ بينما كانت هذه مباحة للمسلمين‏.‏ ولعلهم جادلوا في هذا الحل‏.‏ وكذلك روي أنهم جادلوا في المحرمات المذكورة هنا مع أنها محرمة عليهم في التوراة‏.‏‏.‏ وكان الهدف دائما هو التشكيك في صحة الأوامر القرآنية وصدق الوحي بها من الله‏.‏

ومن ثم نجد هنا حملة قوية على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب‏:‏

‏{‏إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ويشترون به ثمناً قليلاً، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة‏.‏ فما أصبرهم على النار‏!‏ ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق، وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد‏}‏‏.‏

والتنديد بكتمان ما أنزل الله من الكتاب كان المقصود به أولاً أهل الكتاب‏.‏ ولكن مدلول النص العام ينطبق على أهل كل ملة، يكتمون الحق الذي يعلمونه، ويشترون به ثمناً قليلاً‏.‏ إما هو النفع الخاص الذي يحرصون عليه بكتمانهم للحق، والمصالح الخاصة التي يتحرونها بهذا الكتمان، ويخشون عليها من البيان‏.‏ وإما هو الدنيا كلها- وهي ثمن قليل حين تقاس إلى ما يخسرونه من رضى الله، ومن ثواب الآخرة‏.‏

وفي جو الطعام ما حرم منه وما حلل يقول القرآن عن هؤلاء‏:‏

‏{‏ما يأكلون في بطونهم إلا النار‏}‏‏.‏‏.‏

تنسيقاً للمشهد في السياق‏.‏ وكأنما هذا الذي يأكلونه من ثمن الكتمان والبهتان نار في بطونهم‏!‏ وكأنما هم يأكلون النار‏!‏ وإنها لحقيقة حين يصيرون إلى النار في الآخرة، فإذا هي لهم لباس، وإذا هي لهم طعام‏!‏

وجزاء ما كتموا من آيات الله أن يهملهم الله يوم القيامة، ويدعهم في مهانة وازدراء والتعبير القرآني عن هذا الإهمال وهذه المهانة وهذا الازدراء هو قوله‏:‏

‏{‏لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم‏}‏‏.‏‏.‏

لتجسيم الإهمال في صورة قريبة لحس البشر وإدراكهم‏.‏‏.‏ لا كلام ولا اهتمام ولا تطهير ولا غفران‏.‏‏.‏ ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

وتعبير آخر مصور موح‏:‏

‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة‏}‏‏.‏‏.‏

فكأنما هي صفقة يدفعون فيها الهدى ويقبضون الضلالة‏!‏ ويؤدون المغفرة ويأخذون فيها العذاب‏.‏‏.‏ فما أخسرها من صفقة وأغباها‏!‏ ويا لسوء ما ابتاعوا وما اختاروا‏!‏ وإنها لحقيقة‏.‏ فقد كان الهدى مبذولاً لهم فتركوه وأخذوا الضلالة‏.‏

وكانت المغفرة متاحة لهم فتركوها واختاروا العذاب‏.‏‏.‏

‏{‏فما أصبرهم على النار‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

فيا لطول صبرهم على النار، التي اختاروها اختياراً، وقصدوا إليها قصداً‏.‏

فيا للتهكم الساخر من طول صبرهم على النار‏!‏

وإنه لجزاء مكافئ لشناعة الجريمة‏.‏ جريمة كتمان الكتاب الذي أنزله الله ليعلن للناس‏.‏ وليحقق في واقع الأرض، وليكون شريعة ومنهاجاً‏.‏ فمن كتمه فقد عطله عن العمل‏.‏ وهو الحق الذي جاء للعمل‏:‏

‏{‏ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق‏}‏‏.‏‏.‏

فمن فاء إليه فهو على الهدى، وهو في وفاق مع الحق، وفي وفاق مع المهتدين من الخلق، وفي وفاق مع فطرة الكون وناموسه الأصيل‏.‏

‏{‏وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد‏}‏‏.‏‏.‏

شقاق مع الحق، وشقاق مع ناموس الفطرة، وشقاق فيما بينهم وبين أنفسهم‏.‏‏.‏ ولقد كانوا كذلك، وما يزالون‏.‏ وتلحق بهم كل أمة تختلف في كتابها‏.‏ فلا تأخذ به جملة، وتمزقه تفاريق‏.‏‏.‏ وعد الله الذي يتحقق على مدار الزمان واختلاف الأقوام‏.‏ ونحن نرى مصداقه واقعاً في هذا العالم الذي نعيش فيه‏.‏

وأخيراً وفي آية واحدة يضع قواعد التصور الإيماني الصحيح، وقواعد السلوك الإيماني الصحيح، ويحدد صفة الصادقين المتقين‏:‏

‏{‏ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب؛ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين؛ وآتى المال- على حبه- ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة؛ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس‏.‏‏.‏ أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون‏}‏‏.‏‏.‏

والراجح أن هناك صلة بين هذا البيان وبين تحويل القبلة وما ثار حوله من جدل طويل‏.‏ ولقد سبق الكلام عن حكمة تحويل القبلة‏.‏ فالآن يصل السياق إلى تقرير الحقيقة الكبرى حول هذه القضية وحول سائر القضايا الجدلية التي يثيرها اليهود حول شكليات الشعائر والعبادات، وكثيراً ما كانوا يثيرون الجدل حول هذه الأمور‏.‏

إنه ليس القصد من تحويل القبلة، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق، أن يولي الناس وجوهم قبل المشرق والمغرب‏.‏‏.‏ نحو بيت المقدس أو نحو المسجد الحرام‏.‏‏.‏ وليست غاية البر- وهو الخير جملة- هي تلك الشعائر الظاهرة‏.‏ فهي في ذاتها- مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك- لا تحقق البر، ولا تنشئ الخير‏.‏‏.‏ إنما البر تصور وشعور وأعمال وسلوك‏.‏ تصور ينشئ أثره في ضمير الفرد والجماعة؛ وعمل ينشئ أثره في حياة الفرد والجماعة‏.‏ ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب‏.‏‏.‏ سواء في التوجه إلى القبلة هذه أم تلك؛ أو في التسليم من الصلاة يمينا وشمالاً، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في الشعائر‏.‏

‏{‏ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏}‏‏.‏

ذلك هو البر الذي هو جماع الخير‏.‏‏.‏ فماذا في تلك الصفات من قيم تجعل لها هذا الوزن في ميزان الله‏؟‏

ما قيمة الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين‏؟‏

إن الإيمان بالله هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى، وشتى الأشياء، وشتى الاعتبارات‏.‏‏.‏ إلى عبودية واحدة لله تتحرر بها النفس من كل عبودية، وترتفع بها إلى مقام المساواة مع سائر النفوس في الصف الواحد أمام المعبود الواحد؛ ثم ترتفع بها فوق كل شيء وكل اعتبار‏.‏‏.‏ وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام، ومن التيه إلى القصد، ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه‏.‏ فهذه البشرية دون إيمان بالله الواحد، لا تعرف لها قصداً مستقيماً ولا غاية مطردة، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمع حولها في جد وفي مساواة، كما يتجمع الوجود كله، واضح النسب والارتباطات والأهداف والعلاقات‏.‏‏.‏ والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء؛ وبأن حياة الإنسان على هذه الأرض ليست سدى ولا فوضى بغير ميزان‏.‏ وبأن الخير لا يعدم جزاءه ولو بدا أنه في هذه الأرض لا يلقى الجزاء‏.‏‏.‏ والإيمان بالملائكة طرف من الإيمان بالغيب الذي هو مفرق الطريق بين إدراك الإنسان وإدراك الحيوان، وتصور الإنسان لهذا الوجود وتصور الحيوان‏.‏ الإنسان الذي يؤمن بما وراء الحس والحيوان المقيد بحسه لا يتعداه‏.‏‏.‏ والإيمان بالكتاب والنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعاً وبالرسل أجمعين، وهو الإيمان بوحدة البشرية، ووحدة إلهها، ووحدة دينها، ووحدة منهجها الإلهي‏.‏‏.‏ ولهذا الشعور قيمة في شعور المؤمن الوارث لتراث الرسل والرسالات‏.‏

وما قيمة إيتاء المال- على حبه والاعتزاز به- لذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب‏؟‏

إن قيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة‏.‏ انعتاق الروح من حب المال الذي يقبض الأيدي عن الإنفاق، ويقبض النفوس عن الأريحية، ويقبض الأرواح عن الانطلاق‏.‏ فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال‏.‏ وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال‏.‏ لا في الرخيص منه ولا الخبيث‏.‏ فيتحرر من عبودية المال، هذه العبودية التي تستذل النفوس، وتنكس الرؤوس‏.‏ ويتحرر من الحرص‏.‏ والحرص يذل اعناق الرجال‏.‏ وهي قيمة إنسانية كبرى في حساب الإسلام، الذي يحاول دائماً تحرير الإنسان من وساوس نفسه وحرصها وضعفها قبل أن يحاول تحريره من الخارج في محيط الجماعة وارتباطاتها، يقيناً منه بأن عبيد أنفسهم هم عبيد الناس؛ وأن أحرار النفوس من الشهوات هم أحرار الرؤوس في المجتمعات‏!‏‏.‏‏.‏ ثم إنها بعد ذلك كله قيمة إنسانية في محيط الجماعة‏.‏‏.‏ هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس، وكرامة الأسرة، ووشائج القربى‏.‏ والأسرة هي النواة الأولى للجماعة‏.‏ ومن ثم هذه العناية بها وهذا التقديم‏.‏‏.‏ وهي لليتامى تكافل بين الكبار والصغار في الجماعة، وبين الأقوياء فيها والضعفاء؛ وتعويض لهؤلاء الصغار عن فقدان الحماية والرعاية الأبويتين؛ وحماية للأمة من تشرد صغارها، وتعرضهم للفساد، وللنقمة على المجتمع الذي لم يقدم لهم براً ولا رعاية‏.‏

‏.‏ وهي للمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون- وهم مع ذلك ساكنون لا يسألون ضناً بماء وجوههم- احتفاظ لهم بكرامة نفوسهم، وصيانة لهم من البوار، وإشعار لهم بالتضامن والتكافل في محيط الجماعة المسلمة، التي لا يهمل فيها فرد، ولا يضيع فيها عضو‏.‏‏.‏ وهي لابن السبيل- المنقطع عن ماله وأهله- واجب للنجدة في ساعة العسرة، وانقطاع الطريق دون الأهل والمال والديار؛ وإشعار له بأن الإنسانية كلها أهل، وبأن الأرض كلها وطن، يلقى فيها أهلاً بأهل، ومالاً بمال، وصلة بصلة، وقراراً بقرار‏.‏‏.‏ وهي للسائلين إسعاف لعوزهم، وكف لهم عن المسألة التي يكرهها الإسلام‏.‏ وفي الإسلام لا يسأل من يجد الكفاية أو من يجد عملاً، فهو مأمور من دينه أن يعمل ولا يسأل، وأن يقنع ولا يسأل‏.‏ فلا سائل إلا حيث يعييه العمل والمال‏.‏‏.‏ وهي في الرقاب اعتاق وتحرير لمن أوقعه سوء عمله في الرق بحمل السيف في وجه الإسلام- حتى يسترد حريته وإنسانيته الكريمة‏.‏ ويتحقق هذا النص إما بشراء الرقيق وعتقه، وإما بإعطائه ما يؤدي به ما كاتب عليه سيده في نظير عتقه‏.‏ والإسلام يعلن حرية الرقيق في اللحظة التي يطلب فيها الحرية، ويطلب مكاتبته عليها- أي أداء مبلغ من المال في سبيلها، ومنذ هذه اللحظة يصبح عمله بأجر يحسب له، ويصبح مستحقاً في مصارف الزكاة، ويصبح من البر كذلك إعطاؤه من النفقات غير الزكاة‏.‏‏.‏ كل أولئك ليسارع في فك رقبته، واسترداد حريته‏.‏‏.‏

وإقامة الصلاة‏؟‏ ما قيمتها في مجال البر الذي هو جماع الخير‏؟‏

إن إقامة الصلاة شيء غير التولي قبل المشرق والمغرب‏.‏ إنها توجه الإنسان بكليته إلى ربه، ظاهراً وباطناً جسماً وعقلاً وروحاً‏.‏ إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسم‏.‏ وليست مجرد توجه صوفي بالروح‏.‏ فالصلاة الإسلامية تلخص فكرة الإسلام الأساسية عن الحياة‏.‏ إن الإسلام يعترف بالإنسان جسماً وعقلاً وروحاً في كيان؛ ولا يفترض أن هناك تعارضاً بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للإنسان، ولا يحاول أن يكبت الجسم لتنطلق الروح، لأن هذا الكبت ليس ضرورياً لانطلاق الروح‏.‏ ومن ثم يجعل عبادته الكبرى‏.‏‏.‏ الصلاة‏.‏ مظهراً لنشاط قواه الثلاث وتوجهها إلى خالقها جميعاً في ترابط واتساق‏.‏ يجعلها قياماً وركوعاً وسجوداً تحقيقاً لحركة الجسد، ويجعلها قراءة وتدبراً وتفكيراً في المعنى والمبنى تحقيقا لنشاط العقل؛ ويجعلها توجها واستسلاماً لله تحقيقا لنشاط الروح‏.‏‏.‏ كلها في آن‏.‏‏.‏ وإقامة الصلاة على هذا النحو تذكر بفكرة الإسلام كلها عن الحياة، وتحقق فكرة الإسلام كلها عن الحياة‏.‏‏.‏ في كل ركعة وفي كل صلاة‏.‏

وإيتاء الزكاة‏؟‏‏.‏‏.‏ إنه الوفاء بضريبة الإسلام الاجتماعية التي جعلها الله حقاً في أموال الأغنياء للفقراء، بحكم أنه هو صاحب المال، وهو الذي ملكه للفرد بعقد منه، من شروطه إيتاء الزكاة‏.‏ وهي مذكورة هنا بعد الحديث عن إيتاء المال- على حبه- لمن ذكرتهم الآية من قبل على الإطلاق؛ مما يشير إلى أن الإنفاق في تلك الوجوه ليس بديلا من الزكاة، وليست الزكاة بديلة منه‏.‏‏.‏ وإنما الزكاة ضريبة مفروضة، والإنفاق تطوع طليق‏.‏‏.‏ والبر لا يتم إلا بهذه وتلك‏.‏ وكلتاهما من مقومات الإسلام‏.‏ وما كان القرآن ليذكر الزكاة منفردة بعد الإنفاق إلا وهي فريضة خاصة لا يسقطها الإنفاق، ولا تغني هي عن الإنفاق‏.‏

والوفاء بالعهد‏؟‏ إنه سمة الإسلام التي يحرص عليها، ويكررها القرآن كثيراً؛ ويعدها آية الإيمان، وآية الآدمية وآية الإحسان‏.‏ وهي ضرورية لإيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول‏.‏ تقوم ابتداء على الوفاء بالعهد مع الله‏.‏ وبغير هذه السمة يعيش كل فرد مفزعاً قلقاً لا يركن إلى وعد، ولا يطمئن إلى عهد، ولا يثق بإنسان، ولقد بلغ الإسلام من الوفاء بالعهد لأصدقائه وخصومه على السواء قمة لم تصعد إليها البشرية في تاريخها كله، ولم تصل إليها إلا على حداء الإسلام وهدي الإسلام‏.‏

والصبر في البأساء والضراء وحين البأس‏؟‏‏.‏‏.‏ إنها تربية للنفوس وإعداد، كي لا تطير شعاعاً مع كل نازلة، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة، ولا تنهار جزعاً أمام الشدة‏.‏ إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسراً‏.‏ إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله‏.‏ ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية، والعدل في الأرض والصلاح، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة‏.‏ الصبر في البؤس والفقر‏.‏ والصبر في المرض والضعف‏.‏ والصبر في القلة والنقص‏.‏ والصبر في الجهاد والحصار، والصبر على كل حال‏.‏ كي تنهض بواجبها الضخم، وتؤدي دورها المرسوم، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال‏.‏

ويبرز السياق هذه الصفة‏.‏‏.‏ صفة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس‏.‏‏.‏ يبرزها بإعطاء كلمة ‏{‏الصابرين‏}‏ وصفاً في العبارة يدل على الاختصاص‏.‏ فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير‏:‏ «وأخص الصابرين»‏.‏‏.‏ وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر‏.‏‏.‏ لفتة خاصة تبرز الصابرين وتميزهم، وتخصص هذه السمة من بين سمات الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين وإيتاء المال- على حبه- وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد‏.‏‏.‏ وهو مقام للصابرين عظيم، وتقدير لصفة الصبر في ميزان الله، يلفت الأنظار‏.‏‏.‏

وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد، وتكاليف النفس والمال، وتجعلها كلاً لا يتجزأ، ووحدة لا تنفصم‏.‏

وتضع على هذا كله عنواناً واحداً هو «البر» أو هو «جماع الخير» أو هو «الإيمان» كما ورد في بعض الأثر‏.‏ والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادئ المنهج الإسلامي المتكامل لا يستقيم بدونها إسلام‏.‏

ومن ثم تعقب الآية على من هذه صفاتهم بأنهم‏:‏

‏{‏أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون‏}‏‏.‏‏.‏

أولئك الذين صدقوا ربهم في إسلامهم‏.‏ صدقوا في إيمانهم واعتقادهم، وصدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة‏.‏

وأولئك هم المتقون الذين يخشون ربهم ويتصلون به، ويؤدون واجبهم له في حساسية وفي إشفاق‏.‏‏.‏

وننظر نحن من خلال هذه الآية إلى تلك الآفاق العالية التي يريد الله أن يرفع الناس إليها، بمنهجه الرفيع القويم‏.‏‏.‏ ثم ننظر إلى الناس وهم ينأون عن هذا المنهج ويتجنبونه، ويحاربونه، ويرصدون له العداوة، ولكل من يدعوهم إليه‏.‏‏.‏ ونقلب أيادينا في أسف، ونقول ما قال الله سبحانه‏:‏ يا حسرة على العباد‏!‏

ثم ننظر نظرة أخرى فتنجلي هذه الحسرة، على أمل في الله وثيق، وعلى يقين في قوة هذا المنهج لا يتزعزع، ونستشرف المستقبل فإذا على الأفق أمل‏.‏ أمل وضيء منير‏.‏ أن لا بد لهذه البشرية من أن تفيء- بعد العناء الطويل- إلى هذا المنهج الرفيع‏.‏ وأن تتطلع إلى هذا الأفق الوضيء‏.‏‏.‏ والله المستعان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏178- 188‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏178‏)‏ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏179‏)‏ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏180‏)‏ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏181‏)‏ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏182‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏183‏)‏ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏184‏)‏ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏185‏)‏ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ‏(‏186‏)‏ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏187‏)‏ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

يتضمن هذا الدرس جانباً من التنظيمات الاجتماعية للمجتمع المسلم الذي كان ينشأ في المدينة نشأته الأولى، كما يتضمن جانباً من العبادات المفروضة‏.‏‏.‏ هذه وتلك مجموعة متجاورة في قطاع واحد من قطاعات السورة‏.‏ وهذه وتلك مشدودة برباط واحد إلى تقوى الله وخشيته، حيث يتكرر ذكر التقوى في التعقيب على التنظيمات الاجتماعية والتكاليف التعبدية سواء بسواء‏.‏‏.‏ وحيث تجيء كلها عقب آية البر التي استوعبت قواعد التصور الإيماني وقواعد السلوك العملي في نهاية الدرس السابق‏.‏

في هذا الدرس حديث عن القصاص في القتلى وتشريعاته‏.‏ وفيه حديث عن الوصية عند الموت‏.‏‏.‏ ثم حديث عن فريضة الصوم وشعيرة الدعاء وشعيرة الاعتكاف‏.‏‏.‏ وفي النهاية حديث عن التقاضي في الأموال‏.‏

وفي التعقيب على القصاص ترد إشارة إلى التقوى‏:‏ ‏{‏ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون‏}‏‏.‏‏.‏

وفي التعقيب على الوصية ترد الإشارة إلى التقوى كذلك‏:‏ ‏{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت- أن ترك خيراً- الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين‏}‏‏.‏‏.‏

وفي التعقيب على الصيام ترد الإشارة إلى التقوى أيضاً‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون‏}‏‏.‏‏.‏

ثم ترد نفس الإشارة بعد الحديث عن الاعتكاف في نهاية الحديث عن أحكام الصوم‏:‏ ‏{‏تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون‏}‏‏.‏‏.‏

ولا تبعد التعقيبات القليلة الباقية في الدرس عن معنى التقوى، واستجاشة الحساسية والشعور بالله في القلوب‏.‏ فتجيء هذه التعقيبات‏:‏ ‏{‏ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏إن الله سميع عليم‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

وهو اطراد يوجه النظر إلى حقيقة هذا الدين‏.‏‏.‏ إنه وحدة لا تتجزأ‏.‏‏.‏ تنظيماته الاجتماعية، وقواعده التشريعية وشعائره التعبدية‏.‏‏.‏ كلها منبثقة من العقيدة فيه؛ وكلها نابعة من التصور الكلي الذي تنشئه هذه العقيدة؛وكلها مشدودة برباط واحد إلى الله؛ وكلها تنتهي إلى غاية واحدة هي العبادة‏:‏ عبادة الله الواحد‏.‏ الله الذي خلق، ورزق، واستخلف الناس في هذا الملك، خلافة مشروطة بشرط‏:‏ أن يؤمنوا به وحده؛ وأن يتوجهوا بالعبادة إليه وحده؛ وأن يستمدوا تصورهم ونظمهم وشرائعهم منه وحده‏.‏

وهذا الدرس بمجموعة الموضوعات التي يحتويها، والتعقيبات التي يتضمنها، نموذج واضح لهذا الترابط المطلق في هذا الدين‏.‏‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى‏:‏ الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى‏.‏ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان‏.‏ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة‏.‏ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم‏.‏ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون‏}‏‏.‏‏.‏

النداء للذين آمنوا‏.‏‏.‏ بهذه الصفة التي تقتضي التلقي من الله، الذي آمنوا به، في تشريع القصاص‏.‏

وهو يناديهم لينبئهم أن الله فرض عليهم شريعة القصاص في القتلى، بالتفصيل الذي جاء في الآية الأولى‏.‏ وفي الآية الثانية يبين حكمة هذه الشريعة، ويوقظ فيهم التعقل والتدبر لهذه الحكمة، كما يستجيش في قلوبهم شعور التقوى؛ وهو صمام الأمن في مجال القتلى والقصاص‏.‏

وهذه الشريعة التي تبينها الآية‏:‏ أنه عند القصاص للقتلى- في حالة العمد- بقتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى‏.‏

‏{‏فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا العفو يكون بقبول الدية من أولياء الدم بدلاً من قتل الجاني‏.‏ ومتى قبل ولي الدم هذا ورضيه، فيجب إذن أن يطلبه بالمعروف والرضى والمودة‏.‏ ويجب على القاتل أو وليه أن يؤديه بإحسان وإجمال وإكمال‏.‏ تحقيقاً لصفاء القلوب، وشفاء لجراح النفوس، وتقوية لأواصر الأخوة بين البقية الأحياء‏.‏

وقد امتن الله على الذين آمنوا بشريعة الدية هذه بما فيها من تخفيف ورحمة‏:‏

‏{‏ذلك تخفيف من ربكم ورحمة‏}‏‏.‏‏.‏

ولم يكن هذا التشريع مباحاً لبني إسرائيل في التوراة‏.‏ إنما شرع للأمة المسلمة استبقاء للأرواح عند التراضي والصفاء‏.‏

‏{‏فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم‏}‏‏.‏‏.‏

وفوق العذاب الذي يتوعده به في الآخرة‏.‏‏.‏ يتعين قتله، ولا تقبل منه الدية‏.‏ لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول، نكث للعهد، وإهدار للتراضي، وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب، ومتى قبل ولي الدم الدية، فلا يجوز له أن يعود فينتقم ويعتدي‏.‏

ومن ثم ندرك سعة آفاق الإسلام؛ وبصره بحوافز النفس البشرية عند التشريع لها؛ ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع‏.‏‏.‏ إن الغضب للدم فطرة وطبيعة‏.‏ فالإسلام يلبيها بتقرير شريعة القصاص‏.‏ فالعدل الجازم هو الذي يكسر شرة النفوس، ويفثأ حنق الصدور، ويردع الجاني كذلك عن التمادي، ولكن الإسلام في الوقت ذاته يحبب في العفو، ويفتح له الطريق، ويرسم له الحدود، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص دعوة إلى التسامي في حدود التطوع، لا فرضاً يكبت فطرة الإنسان ويحملها ما لا تطيق‏.‏

وتذكر بعض الروايات أن هذه الآية منسوخة‏.‏ نسختها آية المائدة التي نزلت بعدها وجعلت النفس بالنفس إطلاقاً‏:‏ ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏.‏‏.‏ الآية‏}‏‏.‏‏.‏ قال ابن كثير في التفسير‏:‏ وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم‏.‏ حدثنا أبو زرعة‏.‏ حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير‏.‏ حدثني عبد الله بن لهيعة‏.‏ حدثني عطاء بن دينار‏.‏ عن سعيد بن جبير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى‏}‏- يعني إذا كان عمداً- الحر بالحر‏.‏‏.‏‏.‏ وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية- قبل الإسلام بقليل‏.‏ فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا‏.‏

فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، والمرأة منا الرجل منهم‏.‏‏.‏ فنزل فيهم‏:‏ ‏{‏الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى‏}‏‏.‏‏.‏ منسوخة نسختها‏:‏ ‏{‏النفس بالنفس‏}‏ وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏النفس بالنفس‏}‏‏.‏

والذي يظهر لنا أن موضع هذه الآية غير موضع آية النفس بالنفس‏.‏‏.‏ وأن لكل منهما مجالاً غير مجال الأخرى‏.‏ وأن آية النفس بالنفس مجالها مجال الاعتداء الفردي من فرد معين، على فرد معين أو من أفراد معينين على فرد أو أفراد معينين كذلك‏.‏ فيؤخذ الجاني ما دام القتل عمداً‏.‏‏.‏ فأما الآية التي نحن بصددها فمجالها مجال الاعتداء الجماعي- كحالة ذينك الحيين من العرب- حيث تعتدي أسرة على أسرة، أو قبيلة على قبيلة، أو جماعة على جماعة‏.‏ فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء‏.‏‏.‏ فإذا أقيم ميزان القصاص كان الحر من هذه بالحر من تلك، والعبد من هذه بالعبد من تلك، والأنثى من هذه بالأنثى من تلك‏.‏ وإلا فكيف يكون القصاص في مثل هذه الحالة التي يشترك فيها جماعة في الاعتداء على جماعة‏؟‏

وإذا صح هذا النظر لا يكون هناك نسخ لهذه الآية، ولا تعارض في آيات القصاص‏.‏

ثم يكمل السياق الحديث عن فريضة القصاص بما يكشف عن حكمتها العميقة وأهدافها الأخيرة‏:‏

‏{‏ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون‏}‏‏.‏‏.‏

إنه ليس الانتقام، وليس إرواء الأحقاد‏.‏ إنما هو أجل من ذلك وأعلى‏.‏ إنه للحياة، وفي سبيل الحياة، بل هو في ذاته حياة‏.‏‏.‏ ثم إنه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله‏.‏‏.‏

والحياة التي في القصاص تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء‏.‏ فالذي يوقن أنه يدفع حياته ثمناً لحياة من يقتل‏.‏‏.‏ جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد‏.‏ كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل‏.‏ شفائها من الحقد والرغبة في الثأر‏.‏ الثأر الذي لم يكن يقف عند حد في القبائل العربية حتى لتدوم معاركه المتقطعة أربعين عاما كما في حرب البسوس المعروفة عندهم‏.‏ وكما نرى نحن في واقع حياتنا اليوم، حيث تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية جيلا بعد جيل، ولا تكف عن المسيل‏.‏‏.‏

وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم‏.‏ فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها، واعتداء على كل إنسان حي، يشترك مع القتيل في سمة الحياة‏.‏ فإذا كف القصاص الجاني عن إزهاق حياة واحدة، فقد كفه عن الاعتداء على الحياة كلها‏.‏ وكان في هذا الكف حياة‏.‏ حياة مطلقة‏.‏ لا حياة فرد ولا حياة أسرة، ولا حياة جماعة‏.‏‏.‏ بل حياة‏.‏‏.‏

ثم- وهو الأهم والعامل المؤثر الأول في حفظ الحياة- استجاشة شعور التدبر لحكمة الله، ولتقواه‏:‏ ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏‏.‏

هذا هو الرباط الذي يعقل النفوس عن الاعتداء‏.‏ الاعتداء بالقتل ابتداء، والاعتداء في الثأر أخيراً‏.‏‏.‏ التقوى‏.‏‏.‏ حساسية القلب وشعروه بالخوف من الله؛ وتحرجه من غضبه وتطلبه لرضاه‏.‏

إنه بغير هذا الرباط لا تقوم شريعة، ولا يفلح قانون، ولا يتحرج متحرج، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان‏!‏

وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- وعهد الخلفاء، ومعظمها كان مصحوباً باعتراف الجاني نفسه طائعاً مختاراً‏.‏‏.‏ لقد كانت هنالك التقوى‏.‏‏.‏ كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر، وفي حنايا القلوب، تكفها عن مواضع الحدود‏.‏‏.‏ إلى جانب الشريعة النيرة البصيرة بخفايا الفطر ومكنونات القلوب‏.‏‏.‏ وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية والتوجيهات والعبادات من ناحية أخرى، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصور سليم الشعور‏.‏ نظيف الحركة نظيف السلوك‏.‏ لأنها تقيم محكمتها الأولى في داخل الضمير‏!‏

«حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان، وسقط الإنسان سقطة، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون تحول هذا الإيمان نفساً لوامة عنيفة ووخزاً لاذعاً للضمير وخيالاً مروعاً، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة، ويتحملها مطمئناً مرتاحاً، تفادياً من سخط الله، وعقوبة الآخرة»‏.‏

إنها التقوى‏.‏‏.‏ إنها التقوى‏.‏‏.‏

ثم يجيء تشريع الوصية عند الموت‏.‏‏.‏ والمناسبة في جوها وجو آيات القصاص حاضرة‏:‏

‏{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت- إن ترك خيراً- الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين‏.‏ فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه‏.‏ إن الله سميع عليم‏.‏ فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه‏.‏ إن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه كذلك كانت فريضة‏.‏ الوصية للوالدين والأقربين‏.‏ إن كان سيترك وراءه خيراً‏.‏ وفسر الخير بأنه الثروة‏.‏ واختلف في المقدار الذي تجب عنده الوصية‏.‏ والأرجح أنها مسألة اعتبارية بحسب العرف‏.‏ فقال بعضهم لا يترك خيراً من يترك أقل من ستين ديناراً، وقيل ثمانين وقيل أربعمائة‏.‏ وقيل ألف‏.‏‏.‏ والمقدار الذي يعتبر ثروة تستحق الوصية لا شك يختلف من زمان إلى زمان، ومن بيئة إلى بيئة‏.‏

وقد نزلت آيات المواريث بعد نزول آيات الوصية هذه‏.‏ وحددت فيها أنصبة معينة للورثة، وجعل الوالدان وارثين في جميع الحالات‏.‏ ومن ثم لم تعد لهما وصية لأنه لا وصية لوارث‏.‏ لقوله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث»‏.‏ أما الأقربون فقد بقي النص بالقياس إليهم على عمومه‏.‏ فمن ورثته آيات الميراث فلا وصية له؛ ومن لم يرث بقي نص الوصية هنا يشمله‏.‏

‏.‏ وهذا هو رأي بعض الصحابة والتابعين نأخذ به‏.‏

وحكمة الوصية لغير الورثة تتضح في الحالات التي توجب فيها صلة القرابة البر ببعض الأقارب، على حين لا تورثهم آيات الميراث لأن غيرهم يحجبهم‏.‏ وهي لون من الوان التكافل العائلي العام في خارج حدود الوراثة‏.‏ ومن ثم ذكر المعروف وذكر التقوى‏:‏

‏{‏بالمعروف حقاً على المتقين‏}‏‏.‏‏.‏

فلا يظلم فيها الورثة، ولا يهمل فيها غير الورثة؛ ويتحرى التقوى في قصد واعتدال، وفي بر وإفضال‏.‏‏.‏ ومع هذا فقد حددت السنة نسبة الوصية، فحصرتها في الثلث لا تتعداه والربع أفضل‏.‏ كي لا يضار الوارث بغير الوارث‏.‏ وقام الأمر على التشريع وعلى التقوى، كما هي طبيعة التنظيمات الاجتماعية التي يحققها الإسلام في تناسق وسلام‏.‏

فمن سمع الوصية فهو آثم إن بدلها بعد وفاة المورث، وهذا من التبديل بريء‏:‏

‏{‏فمن بدله بعدما سمعه، فإنما إثمه على الذين يبدلونه‏.‏ إن الله سميع عليم‏}‏‏.‏‏.‏

وهو- سبحانه- الشهيد بما سمع وعلم‏.‏ الشهيد للمورث فلا يؤاخذ بما فعل من وراءه‏.‏ والشهيد على من بدل فيؤاخذه بإثم التبديل والتغيير‏.‏

إلا حالة واحدة يجوز فيها للوصي أن يبدل من وصية الموصي‏.‏ ذلك إذا عرف أن الموصي إنما يقصد بوصيته محاباة أحد، أو النكاية بالوريث‏.‏ فعندئذ لا حرج على من يتولى تنفيذ الوصية أن يعدل فيها بما يتلافى به ذلك الجنف، وهو الحيف، ويرد الأمر إلى العدل والنصف‏:‏

‏{‏فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه‏.‏ إن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏‏.‏

والأمر موكول إلى مغفرة الله ورحمته لهذا ولذاك‏.‏ ومشدود إلى مراعاة الله في كل حال، فهي الضمان الأخير للعدل والإنصاف‏.‏

وهكذا نجد الأمر في الوصية مشدوداً إلى تلك العروة التي شد إليها من قبل أمر القصاص في القتلى‏.‏ والتي يشد إليها كل أمر في التصور الإيماني وفي المجتمع الإسلامي على السواء‏.‏

ولقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليه الجهاد في سبيل الله، لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة به على البشرية، وللشهادة على الناس‏.‏ فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة؛ ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد؛ كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها، إيثاراً لما عند الله من الرضى والمتاع‏.‏

وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك؛ والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات؛ والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات‏!‏

وذلك كله إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمان من آثار نافعة للصوم في وظائف الأبدان‏.‏ ومع أنني لا أميل إلى تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية في العبادات- بصفة خاصة- بما يظهر للعين من فوائد حسية، إذ الحكمة الأصيلة فيها هي إعداد هذا الكائن البشري لدوره على الأرض، وتهيئته للكمال المقدر له في حياة الآخرة‏.‏

‏.‏ مع هذا فإنني لا أحب أن أنفي ما تكشف عنه الملاحظة أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض والتوجيهات وذلك ارتكاناً إلى الملحوظ والمفهوم من مراعاة التدبير الإلهي لكيان هذا الإنسان جملة في كل ما يُفرض عليه وما يوجه إليه‏.‏ ولكن في غير تعليق لحكمة التكليف الإلهي بهذا الذي يكشف عنه العلم البشري‏.‏ فمجال هذا العلم محدود لا يتسع ولا يرتقي إلى استيعاب حكمة الله في كل ما يروض به هذا الكائن البشري‏.‏ أو كل ما يروض به هذا الكون بطبيعة الحال‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون، أياماً معدودات، فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر؛ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين؛ فمن تطوع خيراً فهو خير له؛ وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون‏.‏ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان‏.‏ فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر‏.‏ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون‏}‏‏.‏‏.‏

إن الله- سبحانه- يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له؛ مهما يكن فيه من حكمة ونفع، حتى تقتنع به وتراض عليه‏.‏

ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة؛ ثم يقرر لهم- بعد ندائهم ذلك النداء- أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم‏.‏‏.‏ إنها التقوى‏.‏‏.‏ فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثاراً لرضاه‏.‏ والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه‏.‏ فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم‏.‏ وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها‏.‏ ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفاً وضيئاً يتجهون إليه عن طريق الصيام‏.‏‏.‏ ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يثني بتقرير أن الصوم أيام معدودات، فليس فريضة العمر وتكليف الدهر‏.‏ ومع هذا فقد أعفي من أدائه المرضى حتى يصحوا، والمسافرون حتى يقيموا، تحقيقاً وتيسيراً‏:‏

‏{‏أياماً معدودات‏.‏ فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر‏}‏‏.‏

وظاهر النص في المرض والسفر يطلق ولا يحدد‏.‏ فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر، على أن يقضي المريض حين يصح والمسافر حين يقيم‏.‏ وهذا هو الأولى في فهم هذا النص القرآني المطلق، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومنع الضرر‏.‏ فليست شدة المرض ولا مشقة السفر هي التي يتعلق بها الحكم إنما هي المرض والسفر إطلاقاً، لإرادة اليسر بالناس لا العسر‏.‏ ونحن لا ندري حكمة الله كلها في تعليقه بمطلق المرض ومطلق السفر؛ فقد تكون هناك اعتبارات أخرى يعلمها الله ويجهلها البشر في المرض والسفر؛ وقد تكون هناك مشقات أخرى لا تظهر للحظتها، أو لا تظهر للتقدير البشري‏.‏‏.‏ وما دام الله لم يكشف عن علة الحكم فنحن لا نتأولها؛ ولكن نطيع النصوص ولو خفيت علينا حكمتها‏.‏ فوراءها قطعاً حكمة‏.‏ وليس من الضروري أن نكون نحن ندركها‏.‏

يبقى أن القول بهذا يخشى أن يحمل المترخصين على شدة الترخص، وأن تهمل العبادات المفروضة لأدنى سبب‏.‏ مما جعل الفقهاء يتشددون ويشترطون‏.‏ ولكن هذا- في اعتقادي- لا يبرر التقييد فيما أطلقه النص‏.‏ فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات، إنما يقودهم بالتقوى‏.‏ وغاية هذه العبادة خاصة هي التقوى‏.‏ والذي يفلت من أداء الفريضة تحت ستار الرخصة لا خير فيه منذ البدء، لأن الغاية الأولى من أداء الفريضة لا تتحقق‏.‏ وهذا الدين دين الله لا دين الناس‏.‏ والله أعلم بتكامل هذا الدين، بين مواضع الترخص ومواضع التشدد؛ وقد يكون وراء الرخصة في موضع من المصلحة ما لا يتحقق بدونها‏.‏ بل لا بد أن يكون الأمر كذلك‏.‏ ومن ثم أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ المسلمون برخص الله التي رخصها لهم‏.‏ وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال فإن إصلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام؛ ولكن يتأتى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوى في أرواحهم‏.‏ وإذا صح التشدد في أحكام المعاملات عند فساد الناس كعلاج رادع، وسد للذرائع، فإن الأمر في الشعائر التعبدية يختلف، إذ هي حساب بين العبد والرب، لا تتعلق به مصالح العباد تعلقاً مباشراً كأحكام المعاملات التي يراعى فيها الظاهر‏.‏ والظاهر في العبادات لا يجدي ما لم يقم على تقوى القلوب‏.‏ وإذا وجدت التقوى لم يتفلت متفلت، ولم يستخدم الرخصة إلا حيث يرتضيها قلبه، ويراها هي الأولى، ويحس أن طاعة الله في أن يأخذ بها في الحالة التي يواجهها، أما تشديد الأحكام جملة في العبادات أو الميل إلى التضييق من إطلاق الرخص التي أطلقتها النصوص، فقد ينشيء حرجاً لبعض المتحرجين‏.‏ في الوقت الذي لا يجدي كثيراً في تقويم المتفلتين‏.‏‏.‏ والأولى على كل حال أن نأخذ الأمور بالصورة التي أرادها الله في هذا الدين‏.‏

فهو أحكم منا وأعلم بما وراء رخصه وعزائمه من مصالح قريبة وبعيدة‏.‏‏.‏ وهذا هو جماع القول في هذا المجال‏.‏

بقي أن نثبت هنا بعض ما روي من السنة في حالات متعددة من حالات السفر، في بعضها كان التوجيه إلى الفطر وفي بعضها لم يقع نهي عن الصيام‏.‏‏.‏ وهي بمجموعها تساعد على تصور ما كان عليه السلف الصالح من إدراك للأمر، قبل أن تأخذ الأحكام شكل التقعيد الفقهي على أيدي الفقهاء المتأخرين‏.‏ وصورة سلوك أولئك السلف- رضوان الله عليهم- أملأ بالحيوية، وألصق بروح هذا الدين وطبيعته، من البحوث الفقهية؛ ومن شأن الحياة معها وفي جوها أن تنشئ في القلب مذاقاً حياً لهذه العقيدة وخصائصها‏:‏

1- عن جابر- رضي الله عنه- قال‏:‏ «خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ» كراع الغميم «فصام الناس‏.‏ ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس، ثم شرب‏.‏ فقيل له بعد ذلك‏:‏ إن بعض الناس قد صام، فقال‏:‏ أولئك العصاة‏.‏ أولئك العصاة» ‏(‏أخرجه مسلم والترمذي‏)‏‏.‏

2- وعن أنس رضي الله عنه- قال «كنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- في سفر فمنا الصائم ومنا المفطر‏.‏ فنزلنا منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده‏.‏ فسقط الصوام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- ذهب المفطرون اليوم بالأجر» ‏(‏أخرجه الشيخان والنسائي‏)‏‏.‏

3- وعن جابر- رضي الله عنه- قال «كان النبي- صلى الله عليه وسلم- في سفر، فرأى رجلاً قد اجتمع عليه الناس، وقد ظلل عليه‏.‏ فقال‏:‏ ما له‏؟‏ فقالوا‏:‏ رجل صائم فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ليس من البر الصوم في السفر» ‏(‏أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والنسائي‏)‏‏.‏

4- وعن عمرو بن أمية الضمري- رضي الله عنه- «قال قدمت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من سفر، فقال‏:‏ انتظر الغداء يا أبا أمية‏.‏ قلت‏:‏ يا رسول الله إني صائم‏.‏ قال‏:‏ إذاً أخبرك عن المسافر‏.‏ إن الله تعالى وضع عنه الصيام ونصف الصلاة» ‏(‏أخرجه النسائي‏)‏‏.‏‏.‏

5- وعن رجل من بني عبد الله بن كعب بن مالك اسمه أنس بن مالك‏.‏ قال‏:‏ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «إن الله تعالى وضع شطر الصلاة عن المسافر وأرخص له في الإفطار وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما»‏.‏ ‏(‏أخرجه أصحاب السنن‏)‏‏.‏

6- وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت

«سأل حمزة بن عمرو الأسلمي- رضي الله عنه- رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الصوم في السفر‏.‏ ‏(‏وكان كثير الصيام‏)‏ فقال‏:‏ إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر» ‏(‏أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي‏)‏ وفي رواية أخرى وكان جلداً على الصوم‏.‏

7- وعن أنس- رضي الله عنه- قال كنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- فمنا الصائم ومنا المفطر‏.‏ فلا الصائم يعيب على المفطر ولا المفطر يعيب على الصائم «‏.‏‏.‏ ‏(‏أخرجه مالك والشيخان وأبو داود‏)‏‏.‏

8- وعن أبي الدرداء- رضي الله عنه- قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر؛ وما فينا صائم إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وابن رواحة رضي الله عنه‏.‏‏.‏ ‏(‏أخرجه الشيخان وأبو داود‏)‏‏.‏

9- وعن محمد بن كعب قال‏:‏ أتيت أنس بن مالك- رضي الله عنه في رمضان وهو يريد سفراً وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب سفره، فدعا بطعام فأكل‏.‏ فقلت له‏:‏ سنة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ ثم ركب‏.‏‏.‏ ‏(‏أخرجه الترمذي‏)‏‏.‏

10- وعن عبيد بن جبير قال كنت مع أبي بصرة الغفاري- صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنه في سفينة من الفسطاط في رمضان‏.‏ فدفع فقِّرب غداؤه، فقال‏:‏ اقترب‏.‏ قلت‏:‏ ألست ترى البيوت‏؟‏ قال أترغب عن سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏؟‏ فأكل وأكلت‏.‏‏.‏ ‏(‏أخرجه أبو داود‏)‏

11- وعن منصور الكلبي‏:‏ أن دحية بن خليفة- رضي الله عنه- خرج من قرية من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفساط، وذلك ثلاثة أميال، في رمضان‏.‏ فأفطر وأفطر معه ناس كثير‏.‏ وكره آخرون أن يفطروا‏.‏ فلما رجع إلى قريته قال‏:‏ والله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أن أراه‏.‏ إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه‏.‏ اللهم أقبضني إليك‏.‏‏.‏ ‏(‏أخرجه أبو داود‏)‏‏.‏‏.‏

فهذه الأحاديث في جملتها تشير إلى تقبل رخصة الإفطار في السفر في سماحة ويسر‏.‏ وترجح الأخذ بها‏.‏ ولا تشترط وقوع المشقة للأخذ بها كما يشير إلى ذلك الحديثان الأخيران بوجه خاص، وإذا كان الحديث الثامن منها يشير إلى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحده ظل مرة صائماً مع المشقة هو وعبد الله بن رواحة، فقد كانت له- صلى الله عليه وسلم- خصوصيات في العبادة يعفي منها أصحابه‏.‏ كنهيه لهم عن مواصلة الصوم وهو كان يواصل أحياناً‏.‏ أي يصل اليوم باليوم بلا فطر‏.‏

فلما قالوا له في هذا، قال‏:‏ «إني لست مثلكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني»‏.‏ ‏(‏أخرجه الشيخان‏)‏ وثابت من الحديث الأول أنه أفطر وقال عن الذين لم يفطروا‏:‏ أولئك العصاة‏.‏ أولئك العصاة‏.‏ وهذا الحديث متأخر- في سنة الفتح- فهو أحدث من الأحاديث الأخرى‏.‏ وأكثر دلالة على الاتجاه المختار‏.‏‏.‏

والصورة التي تنشأ في الحس من مجموع هذه الحالات‏.‏‏.‏ أنه كانت هناك مراعاة لحالات واقعية، تقتضي توجيهاً معيناً كما هو الشأن في الأحاديث التي تروى في الموضوع العام الواحد، ونجد فيها توجيهات متنوعة- فالرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يربي وكان يواجه حالات حية‏.‏ ولم يكن يواجهها بقوالب جامدة‏!‏

ولكن الانطباع الأخير في الحس في أمر الصوم في السفر هو استحباب الفطر، دون تقيد بحصول المشقة بالفعل‏.‏‏.‏ أما المرض فلم أجد فيه شيئاً إلا أقوال الفقهاء، والظاهر أنه مطلق في كل ما يثبت له وصف المرض، بلا تحديد في نوعه وقدره ولا خوف شدته، على وجوب القضاء يوماً بيوم في المرض والسفر، من غير موالاة في أيام القضاء على الرأي الأرجح‏.‏

وقد استطردت هذا الاستطراد لا لأخوض في خلافات فقهية؛ ولكن لتقرير قاعدة في النظر إلى الشعائر التعبدية، وارتباطها الوثيق بإنشاء حالة شعورية هي الغاية المقدمة منها‏.‏ وهذه الحالة هي التي تحكم سلوك المتعبد؛ وعليها الاعتماد الأول في تربية ضميره، وحسن أدائه للعبادة وحسن سلوكه في الحياة‏.‏‏.‏ هذا من ناحية‏.‏ ومن ناحية أخرى أن نأخذ هذا الدين- كما أراده الله- بتكاليفه كلها، طاعة وتقوى وأن نأخذه جملة بعزائمه ورخصه، متكاملاً متناسقاً في طمأنينة إلى الله، ويقين بحكمته، وشعور بتقواه‏.‏

ثم نعود إلى استكمال السياق‏:‏

‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيراً فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏‏.‏‏.‏

وفي أول الأمر كان تكليف الصوم شاقاً على المسلمين- وقد فرض في السنة الثانية من الهجرة قبيل فرض الجهاد- فجعل الله فيه رخصة لمن يستطيع الصوم بجهد- وهو مدلول يطيقونه- فالإطاقة الاحتمال بأقصى جهد- جعل الله هذه الرخصة، وهي الفطر مع إطعام مسكين‏.‏‏.‏ ثم حببهم في التطوع بإطعام المساكين إطلاقاً، إما تطوعاً بغير الفدية، وإما بالإكثار عن حد الفدية، كأن يطعم اثنين أو ثلاثة أو أكثر بكل يوم من أيام الفطر في رمضان‏:‏ ‏{‏فمن تطوع خيراً فهو خير له‏}‏‏.‏‏.‏ ثم حببهم في اختيار الصوم مع المشقة- في غير سفر ولا مرض-‏:‏ ‏{‏وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏‏.‏‏.‏ لما في الصوم من خير في هذه الحالة‏.‏ يبدو منه لنا عنصر تربية الإرادة، وتقوية الاحتمال، وإيثار عبادة الله على الراحة‏.‏ وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية‏.‏

كما يبدو لنا منه ما في الصوم من مزايا صحية- لغير المريض- حتى ولو أحس الصائم بالجهد‏.‏

وعلى أية حال فقد كان هذا التوجيه تمهيداً لرفع هذه الرخصة عن الصحيح المقيم وإيجاب الصيام إطلاقاً‏.‏ كما جاء فيما بعد‏.‏ وقد بقيت للشيخ الكبير الذي يجهده الصوم، ولا ترجى له حالة يكون فيها قادراً على القضاء‏.‏‏.‏ فأخرج الإمام مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك- رضي الله عنه- كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي‏.‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً‏.‏‏.‏ وعن ابن أبي ليلى قال‏:‏ دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل، فقال‏:‏ قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر‏.‏ فالنسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بالآية الآتية‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

وتحبيب آخر في أداء هذه الفريضة للصحيح المقيم‏.‏‏.‏ إنها صوم رمضان‏:‏ الشهر الذي أنزل فيه القرآن- إما بمعنى أن بدء نزوله كان في رمضان، أو أن معظمه نزل في أشهر رمضان- والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، فأنشأها هذه النشأة، وبدلها من خوفها أمناً، ومكن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة، ولم تكن من قبل شيئاً‏.‏ وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء‏.‏ فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن‏:‏

‏{‏شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان‏.‏‏.‏ فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏.‏ ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه هي الآية الموجبة الناسخة لرخصة الإفطار والفدية بالنسبة للصحيح المقيم- فيما عدا الشيخ والشيخة كما أسلفنا‏:‏

‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏‏.‏‏.‏

أي من حضر منكم الشهر غير مسافر‏.‏ أو من رأى منكم هلال الشهر‏.‏ والمستيقن من مشاهدة الهلال بأية وسيلة أخرى كالذي يشهده في إيجاب الصوم عليه عدة أيام رمضان‏.‏

ولما كان هذا نصاً عاماً فقد عاد ليستثني منه من كان مريضاً أو على سفر‏:‏

‏{‏ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر‏}‏‏.‏‏.‏

وتحبيب ثالث في أداء الفريضة، وبيان لرحمة الله في التكليف وفي الرخصة سواء‏:‏

‏{‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها‏.‏ فهي ميسرة لا عسر فيها‏.‏ وهي توحي للقلب الذي يتذوقها، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها؛ وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد‏.‏

سماحة تؤدى معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء‏.‏ مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين‏.‏

وقد جعل الصوم للمسافر والمريض في أيام أخر، لكي يتمكن المضطر من إكمال عدة أيام الشهر، فلا يضيع عليه أجرها‏:‏

‏{‏ولتكملوا العدة‏}‏‏.‏

والصوم على هذا نعمة تستحق التكبير والشكر‏:‏

‏{‏ولتكبروا الله على ما هداكم‏.‏ ولعلكم تشكرون‏}‏‏.‏‏.‏

فهذه غاية من غايات الفريضة‏.‏‏.‏ أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم‏.‏ وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة‏.‏ وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها‏.‏ وهم شاعرون بالهدى ملموساً محسوساً ليكبروا الله على هذه الهداية، وليشكروه على هذه النعمة‏.‏ ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة‏.‏ كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام‏:‏ ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقّاً على الأبدان والنفوس‏.‏ وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير‏.‏

وقبل أن يمضي السياق في بيان أحكام تفصيلية عن مواعيد الصيام، وحدود المتاع فيه وحدود الإمساك‏.‏‏.‏ نجد لفتة عجيبة إلى أعماق النفس وخفايا السريرة‏.‏ نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم، والجزاء المعجل على الاستجابة لله‏.‏‏.‏ نجد ذلك العوض وهذا الجزاء في القرب من الله، وفي استجابته للدعاء‏.‏‏.‏ تصوره ألفاظ رفافة شفافة تكاد تنير‏:‏

‏{‏وإذا سألك عبادي عني، فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان‏.‏ فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون‏}‏‏.‏‏.‏

فإني قريب‏.‏‏.‏ أجيب دعوة الداع إذا دعان‏.‏‏.‏ أية رقة‏؟‏ وأي انعطاف‏؟‏ وأية شفافية‏؟‏ وأي إيناس‏؟‏ وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود، وظل هذا القرب، وظل هذا الإيناس‏؟‏

وفي كل لفظ في التعبير في الآية كلها تلك النداوة الحبيبة‏:‏

‏{‏وإذا سألك عبادي عني فإني قريب‏.‏ أجيب دعوة الداع إذا دعان‏}‏‏.‏‏.‏

إضافة العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه‏.‏‏.‏ لم يقل‏:‏ فقل لهم‏:‏ إني قريب‏.‏‏.‏ إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال‏.‏‏.‏ قريب‏.‏‏.‏ ولم يقل أسمع الدعاء‏.‏‏.‏ إنما عجل بإجابة الدعاء‏:‏ ‏{‏أجيب دعوة الداع إذا دعان‏}‏‏.‏‏.‏

إنها آية عجيبة‏.‏‏.‏ آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين‏.‏‏.‏ ويعيش منها المؤمن في جناب رضيّ، وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين‏.‏

وفي ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة الوحية‏.‏‏.‏ يوجه الله عباده إلى الاستجابة له، والإيمان به، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح‏.‏

‏{‏فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون‏}‏‏.‏‏.‏

فالثمرة الأخيرة من الاستجابة والإيمان هي لهم كذلك‏.‏

‏.‏ وهي الرشد والهدى والصلاح‏.‏ فالله غني عن العالمين‏.‏

والرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد‏.‏ فالمنهج الإلهي الذي اختاره الله للبشر هو المنهج الوحيد الراشد القاصد؛ وما عداه جاهلية وسفه لا يرضاه راشد، ولا ينتهي إلى رشاد‏.‏ واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له هم ويرشدون‏.‏ وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه‏.‏ فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم‏.‏

أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن ميمون- بإسناده- عن سلمان الفارسي- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ «إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبين»‏.‏

وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي- بإسناده- عن ابن ثوبان‏:‏ ورواه عبد الله بن الإمام أحمد- بإسناده- عن عبادة بن الصامت‏:‏ أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ «ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو كف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم»‏.‏

وفي الصحيحين‏:‏ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل‏.‏ يقول دعوت فلم يستجب لي‏!‏»‏.‏

وفي صحيح مسلم‏:‏ عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل‏:‏ يا رسول الله وما الاستعجال‏.‏ قال‏:‏ يقول‏:‏ قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء»‏.‏

والصائم أقرب الدعاة استجابة، كما روى الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده- بإسناده- عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال‏:‏ «سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة‏.‏‏.‏» فكان عبد الله ابن عمر إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا‏.‏ وروى ابن ماجه في سننه- بإسناده- عن عبد الله بن عمر كذلك قال‏:‏ قال النبي- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد» وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال‏:‏ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «ثلاثة لا ترد دعوتهم‏:‏ الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول‏:‏ بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين»‏.‏

ومن ثم جاء ذكر الدعاء في ثنايا الحديث عن الصيام‏.‏

ثم يمضي السياق يبين للذين آمنوا بعض أحكام الصيام‏.‏ فيقرر لهم حل المباشرة للنساء في ليلة الصوم ما بين المغرب والفجر‏.‏ وحل الطعام والشراب كذلك، كما يبين لهم مواعيد الصوم من الفجر إلى الغروب، وحكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد‏:‏

‏{‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن؛ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم؛ فالأن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل، ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد‏.‏ تلك حدود الله فلا تقربوها‏.‏ كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون‏}‏‏.‏

وفي أول فرض الصوم كانت المباشرة والطعام والشراب تمتنع لو نام الصائم بعد إفطاره‏.‏ فإذا صحا بعد نومه من الليل- ولو كان قبل الفجر- لم تحل له المباشرة ولم يحل له الطعام والشراب‏.‏ وقد وقع أن بعضهم لم يجد طعاماً عند أهله وقت الإفطار، فغلبه النوم، ثم صحا فلم يحل له الطعام والشراب فواصل‏.‏ ثم جهد في النهار التالي وبلغ أمره إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- كما وقع أن بعضهم نام بعد الإفطار أو نامت امرأته، ثم وجد في نفسه دفعة للمباشرة ففعل وبلغ أمره إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وبدت المشقة في أخذ المسلمين بهذا التكليف، فردهم الله إلى اليسر وتجربتهم حاضرة في نفوسهم، ليحسوا بقيمة اليسر وبمدى الرحمة والاستجابة‏.‏‏.‏ ونزلت هذه الآية نزلت‏.‏ تحل لهم المباشرة ما بين المغرب والفجر‏:‏

‏{‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم‏}‏‏.‏‏.‏

والرفث مقدمات المباشرة، أو المباشرة ذاتها، وكلاهما مقصود هنا ومباح‏.‏‏.‏ ولكن القرآن لا يمر على هذا المعنى دون لمسة حانية رفافة، تمنح العلاقة الزوجية شفافية ورفقاً ونداوة، وتنأى بها عن غلظ المعنى الحيواني وعرامته، وتوقظ معنى الستر في تيسير هذه العلاقة‏:‏

‏{‏هن لباس لكم وأنتم لباس لهن‏}‏‏.‏‏.‏

واللباس ساتر وواق‏.‏‏.‏ وكذلك هذه الصلة بين الزوجين‏.‏ تستر كلاًّ منهما وتقيه‏.‏ والإسلام الذي يأخذ هذا الكائن الإنساني بواقعه كله، ويرتضي تكوينه وفطرته كما هي، ويأخذ بيده إلى معارج الارتفاع بكليته‏.‏‏.‏ الإسلام وهذه نظرته يلبي دفعة اللحم والدم‏.‏ وينسم عليها هذه النسمة اللطيفة، ويدثرها بهذا الدثار اللطيف‏.‏‏.‏ في آن‏.‏‏.‏

ويكشف لهم عن خبيئة مشاعرهم، وهو يكشف لهم عن رحمته بالاستجابة لهواتف فطرتهم‏:‏

‏{‏علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم‏.‏ فتاب عليكم وعفا عنكم‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الخيانة لأنفسهم التي يحدثهم عنها، تتمثل في الهواتف الحبيسة، والرغبات المكبوتة؛ أو تتمثل في الفعل ذاته، وقد ورد أن بعضهم أتاه‏.‏‏.‏ وفي كلتا الحالتين لقد تاب عليهم وعفا عنهم، مذ ظهر ضعفهم وعلمه الله منهم‏.‏

‏.‏ فأباح لهم ما كانوا يختانون فيه أنفسهم‏:‏

‏{‏فالأن باشروهن‏}‏‏.‏‏.‏

ولكن هذه الإباحة لا تمضي دون أن تربط بالله، ودون توجيه النفوس في هذا النشاط لله أيضاً‏:‏

‏{‏وابتغوا ما كتب الله لكم‏}‏‏.‏‏.‏

ابتغوا هذا الذي كتبه الله لكم من المتعة بالنساء، ومن المتعة بالذرية، ثمرة المباشرة‏.‏ فكلتاهما من أمر الله، ومن المتاع الذي أعطاكم إياه، ومن إباحتها وإتاحتها يباح لكم طلبها وابتغاؤها‏.‏ وهي موصولة بالله فهي من عطاياه‏.‏ ومن ورائها حكمة، ولها في حسابه غاية‏.‏ فليست إذن مجرد اندفاع حيواني موصول بالجسد، منفصل عن ذلك الأفق الأعلى الذي يتجه إليه كل نشاط‏.‏

بهذا ترتبط المباشرة بين الزوجين بغاية أكبر منهما، وأفق أرفع من الأرض ومن لحظة اللذة بينهما‏.‏ وبهذا تنظف هذه العلاقة وترق وترقى‏.‏‏.‏ ومن مراجعة مثل هذه الإيحاءات في التوجيه القرآني وفي التصور الإسلامي ندرك قيمة الجهد المثمر الحكيم الذي يبذل لترقية هذه البشرية وتطويرها، في حدود فطرتها وطاقتها وطبيعة تكوينها‏.‏ وهذا هو المنهج الإسلامي للتربية والاستعلاء والنماء‏.‏ المنهج الخارج من يد الخالق‏.‏ وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير‏.‏

وكما أباح المباشرة أباح الطعام والشراب في الفترة ذاتها‏:‏

‏{‏وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر‏}‏‏.‏‏.‏

أي حتى ينتشر النور في الأفق وعلى قمم الجبال‏.‏ وليس هو ظهور الخيط الأبيض في السماء وهو ما يسمى بالفجر الكاذب‏.‏ وحسب الروايات التي وردت في تحديد وقت الإمساك نستطيع أن نقول‏:‏ إنه قبل طلوع الشمس بقليل‏.‏ وإننا نمسك الآن وفق المواعيد المعروفة في قطرنا هذا قبل أوان الإمساك الشرعي ببعض الوقت‏.‏‏.‏ ربما زيادة في الاحتياط‏.‏‏.‏

قال ابن جرير- بإسناده- عن سمرة بن جندب‏:‏ قال‏:‏ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض، حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر»‏.‏ ثم رواه من حديث شعبة وغيره عن سواد بن حنظلة عن سمرة قال‏:‏ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكنه الفجر المستطير في الأفق»‏.‏ والفجر المستطير في الأفق يسبق طلوع الشمس بوقت قليل‏.‏‏.‏ وكان بلال- رضي الله عنه- يبكر في الأذان لتنبيه النائم، وكان ابن أم مكتوم يؤذن متأخراً للإمساك وإلى هذا كانت الإشارة إلى أذان بلال‏.‏‏.‏

ثم يذكر حكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد‏.‏ والاعتكاف- بمعنى الخلوة إلى الله في المساجد‏.‏ وعدم دخول البيوت إلا لضرورة قضاء الحاجة، أو ضرورة الطعام والشراب- يستحب في رمضان في الأيام الأخيرة‏.‏ وكانت سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في العشر الأواخر منه‏.‏‏.‏ وهي فترة تجرد لله‏.‏

ومن ثم امتنعت فيها المباشرة تحقيقاً لهذا التجرد الكامل، الذي تنسلخ فيه النفس من كل شيء، ويخلص فيه القلب من كل شاغل‏:‏

‏{‏ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد‏}‏‏.‏‏.‏

سواء في ذلك فترة الإمساك وفترة الإفطار‏.‏

وفي النهاية يربط الأمر كله بالله على طريقة القرآن في توجيه كل نشاط وكل امتناع‏.‏ كل أمر وكل نهي‏.‏ كل حركة وكل سكون‏:‏

‏{‏تلك حدود الله فلا تقربوها‏}‏‏.‏‏.‏

والنهي هنا عن القرب‏.‏‏.‏ لتكون هناك منطقة أمان‏.‏ فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه‏.‏ والإنسان لا يملك نفسه في كل وقت ‏;‏ فأحرى به ألا يعرض إرادته للامتحان بالقرب من المحظورات المشتهاة، اعتماداً على أنه يمنع نفسه حين يريد‏.‏ ولأن المجال هنا مجال حدود للملاذ والشهوات كان الأمر‏:‏ ‏{‏فلا تقربوها‏}‏‏.‏‏.‏ والمقصود هو المواقعة لا القرب‏.‏ ولكن هذا التحذير على هذا النحو له إيحاؤه في التحرج والتقوى‏:‏

‏{‏كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون‏}‏‏.‏‏.‏

وكذلك تلوح التقوى غاية يبين الله آياته للناس ليبلغوها، وهي غاية كبيرة يدرك قيمتها الذين آمنوا، المخاطبون بهذا القرآن في كل حين‏.‏

وفي ظل الصوم، والامتناع عن المأكل والمشرب، يرد تحذير من نوع آخر من الأكل‏:‏ أكل أموال الناس بالباطل‏:‏ عن طريق التقاضي بشأنها أمام الحكام اعتماداً على المغالطة في القرائن والأسانيد، واللحن بالقول والحجة‏.‏ حيث يقضي الحاكم بما يظهر له، وتكون الحقيقة غير ما بدا له‏.‏ ويجيء هذا التحذير عقب ذكر حدود الله، والدعوة إلى تقواه، ليظللها جو الخوف الرادع عن حرمات الله‏:‏

‏{‏ولا تأكلو أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون‏}‏‏.‏

ذكر ابن كثير في تفسير الآية‏:‏ «قال علي بن أبي طلحة وعن ابن عباس‏:‏ هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام‏.‏ وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير، وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا‏:‏ لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم‏.‏ وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏» إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار‏.‏ فليحملها أو ليذرها «‏.‏

وهكذا يتركهم لما يعلمونه من حقيقة دعواهم‏.‏ فحكم الحاكم لا يحل حراماً، ولا يحرم حلالاً‏.‏ إنما هو ملزم في الظاهر‏.‏ وإثمه على المحتال فيه‏.‏

وهكذا يربط الأمر في التقاضي وفي المال بتقوى الله‏.‏ كما ربط في القصاص، وفي الوصية وفي الصيام‏.‏ فكلها قطاعات متناسقة في جسم المنهج الإلهي المتكامل‏.‏ وكلها مشدودة إلى تلك العروة التي تربط قطاعات المنهج كله‏.‏‏.‏ ومن ثم يصبح المنهج الإلهي وحدة واحدة‏.‏ لا تتجزأ ولا تتفرق‏.‏ ويصبح ترك جانب منه وإعمال جانب، إيماناً ببعض الكتاب وكفراً ببعض‏.‏‏.‏ فهو الكفر في النهاية‏.‏ والعياذ بالله‏.‏‏.‏